يُردِّد ساهرون في ليل بيروت، المثقل نهارها أيضاً بعتمةٍ خانقةٍ، كلاماً عن سينما عاجزة عن اللحاق بالانهيار اللبناني السريع. يقولون إنّ المدينة منتهية، والخراب قائم، والفراغ سيّد اللحظات والمُقبل منها. يؤكّدون قناعةً لهم بأنّ الجحيم حاصلٌ، وتوقّعات الأفضل غائبة، والانتظار معقودٌ على موتٍ، لن يهتمّوا بشكله وكيفية حضوره وموعده.
يُدرك هؤلاء أنّ صالات سينمائية لبنانية عدّة تفتح أبوابها، يومياً، لراغبين في مُشاهدة أفلامٍ حديثة الإنتاج، قلّة منها غير أميركية، والأقلّ من القلّة غير تجاري أو استهلاكي. لكنّهم يعرفون أنّ السينما عاجزة عن تخفيف ثقل العتمة الخانقة، كمعرفتهم بأنْ لا سينما قادرة على ابتكار صُورٍ وحالاتٍ ومساراتٍ وجماليات تتساوى مع الانهيار والجفاف والضحالة والوقاحة، التي تعيشها المدينة يومياً، والتي يختبرون تداعياتها عليهم وعلى آخرين، كلّ لحظة.
كلّ كلامٍ لهم عن السينما يبدأ من وقائع تُثير نقمة ونفوراً وكراهية، فوقائع عدّة يصعب على عقلٍ يدّعي توازناً، رغم كلّ شيء، أنْ يُصدِّق حدوثه، مع أنّ التصديق واردٌ سريعاً، فالبلد أعجوبة خرابٍ وموتٍ وفوضى ونهبٍ غير حاصلة في تاريخ البشرية. وقائع يستحيل على شعورٍ، يحاول إيجاد سندٍ له كي لا يتشتَّت ويُشتِّت، أنْ يُتقِن مصالحةً معها، قبل أنْ ينتبه سريعاً إلى أنّ الحاصل طبيعي، فهذا البلد اسمه لبنان، وكلّ شيءٍ سيئ في العالم يحدث فيه، من دون تردّد أو مواربة أو احتيال أو افتراء، لأنّ الوضوح سمة ناهبين وقاتلين ومتسلّطين وقامعين، تماماً كوضوح خانعين لهم وصامتين على أفعالهم وراضين بهم.
يسأل ساهرون في ليل بيروت، المثقل نهارها أيضاً بعتمةٍ خانقةٍ، عن حضور السينما في هذا الديكور الطبيعي، الذي يحتضن كلّ شيءٍ غير طبيعي، مع أنّ غير الطبيعي يُصبح، مع الغالبية الساحقة من اللبنانيين واللبنانيات، أكثر طبيعية من كلّ طبيعي عادي. ديكور يصلح لأجمل فيلمٍ، ولأبرع أداء، ولأعمق نصّ، ولأهمّ معالجة، ولأتقن فنيّات. لكنّ ثقل الواقع أكبر من أنْ تلتقطه عدسة أو عين أو روح أو إحساس. ثقل يقول، كلّ لحظة، إنّ وقائع العيش اليومي في المدينة ـ المثقل نهارها وليلها بعتمةٍ خانقة، والعتمة الخانقة تُشبهها، فكلّ واحدة منهما مرآة الأخرى ـ تحول دون تمكّن عدسةٍ أو عينٍ أو روحٍ أو إحساسٍ من ولوج تلك المتاهة اللبنانية، بكوابيسها المتفشية نهاراً قبل الليل.
أي مُخرجٍ يقدر على التقاط شيءٍ من أسوأ خرابٍ، وأصدق نهبٍ، وأوضح جُرمٍ؟ أي مُخرجة تتمكّن من اختراق محرّماتٍ، يُسيّجها ناهبون وقاتلون ومتسيّدون وقامعون بألف وقاحةٍ وبندقية وإجرام؟ أي متعةٍ تصنعها سينما، يتوق إليها ناجون من عتمةٍ خانقةٍ، وإنْ بألف انكسار وخيبة وانزواء؟ أي صالةٍ تمنح شيئاً من سكينةٍ، لدقائق معدودة، والسكينة تُنحر في كلّ زاوية، وفي كلّ حيّز، وفي كلّ رغبةٍ، وفي كلّ حقٍّ، وفي كلّ استسلام أيضاً؟
قبيل منتصف كلّ ليلة، أو بعده بقليل، يغادر ساهرون في ليل بيروت، المثقل نهارها أيضاً بعتمةٍ خانقة. يغادرون من دون أنْ يقولوا "إلى اللقاء"، فما من شيءٍ أو أحد يضمن لقاءً تالياً. ما من فيلمٍ يُؤكّد عودة، وما من صالةٍ تُحرّض عليها، وما من حبٍّ يضمن تحقيقها. العتمة فقط تقول بصمتٍ ما يشعر به هؤلاء، في سهرتهم، وفي لحظة مغادرتهم أمكنة قليلة لسهرٍ بائسٍ.