عن بيروت والسينما وأشياء أخرى: غياب مُتَعٍ بديهية

09 أكتوبر 2020
بيروت 2020: خرابٌ يُصيب عمارة وعقولاً (إبراهيم عمرو/فرانس برس/Getty)
+ الخط -

 

مع كلّ مهرجان سينمائيّ، يتكرّر كلامٌ متشابه عن المُشاهدة الافتراضية، والتباعد الاجتماعي، والسلامة العامة، والأوضاع الحياتية اليومية المختلفة. وباء كورونا يزداد تفشّياً. لبنان يُعاني بشدّة، فكورونا ليس وحيداً في إرهاق البلد وناسه. الأزمات خانقة. انتشار السلاح بكثرة بين أناسٍ وعشائر مخيفٌ. الجرائم تزداد. الانهيار يقوى. الفوضى عارمة. الموت حاكمٌ مستبدّ.

نشاطات ثقافية وفنية يُراد من تنظيمها الردّ على الشقاء اليوميّ. مهرجانات سينمائية تُقام هنا وهناك، والعالم العربيّ يستعدّ، بدوره، لمهرجانات كهذه، محاولاً التوفيق بين أولوية المُشاهدة الحيّة في الصالات والتزام شروط السلامة الصحّية. الافتراضيّ يفرض نفسه أيضاً، والاستعانة بـ"الهواء الطلق" كفضاء سينمائيّ تُتيح شيئاً من حيوية الاحتفاء بالسينما.

استخدام منصّات جزءٌ من خطط العمل. هذا يمنح المنظّمين إمكانية توفيرٍ ماليّ، في زمن الشحّ الخانق. "قافلة بين سينمائيات" و"مهرجان ريف للأفلام" يعتمدان الافتراضيّ نمط مُشاهدة. البساطة في عرض الأفلام المختارة تتوافق وحالة مضطربة في المشهد الحياتي. تنضمّ إليهما "أيام فلسطين السينمائية". القول بأزمة اقنصادية نابعٌ من قسوة اليوميّ، فالانهيارات متلاحقة، والعالم يبدو كأنّه على شفير هاوية، إنْ لم يكن فيها. الأهمّ، بالنسبة إلى منظّمي مهرجانات، كامنٌ في تواصل مطلوبٍ بين نتاجٍ سينمائي ومشاهدين يتغاضون عن أصولٍ متّبعة في المُشاهدة، من أجل المُشاهدة بحدّ ذاتها. نشاطات مرافقة لعروض الأفلام تُقام "أونلاين". هذا امتدادٌ لاهتمامٍ المنظّمين، فكلّ شيء يُسخَّر من أجل تنظيم سليمٍ لمُشاهدة ومتابعة ونقاشٍ وتواصلٍ.

المكتوب سابقاً مُكرّر. منذ 7 أشهر، يُثير إغلاق الصالات قلقاً إزاء مسائل عدّة، أبرزها متعلّق بمصير السينما، وبمصير عاملين في مهنها المختلفة. المُشاهدة مطروحة. المهرجانات أيضاً. لا جديد يُذكر، باستثناء تجربة ينجح "مهرجان فينيسيا السينمائي" في اختبارها، وهذا أيضاً كلامٌ مُكرّر منذ انتهاء دورته الـ77 (2 ـ 12 سبتمبر/ أيلول 2020). رغم نشوة النجاح، يفقد الكلام رونقه بسبب تكراره. انتظار أفلامٍ جديدة للكتابة النقدية عنها يشوبه مللٌ. منصّات المشاهدة المنزلية، الموجّهة إلى العالم العربي، تفقد عناوين كثيرة، يُقال عن بعضها إنّه مهمّ وجميل. التنقّل بين مدنٍ داخل بلدٍ واحد، أو بين بلدانٍ، مخيف، فالوباء كارثيّ، والجنون يتفشّى بسرعةِ تفشّي كورونا.

 

 

لا قضايا سينمائية تحرّض على كتابة ونقاشٍ. تصريح الممثل المصري محمد رمضان يدفع إلى الشفقة عليه، فهو (الممثل) نموذج لتردّي أحوالٍ كثيرة في التفكير والعمل والاشتغال والحياة والسلوك. هذا مُعرّض يومياً لتحدّيات جمّة، أبرزها الإفلاس المالي، بينما تصريح رمضان إفلاسٌ ثقافي وعقلي. يقول إنّه نادمٌ على قُبَلٍ في "إحكي يا شهرزاد" (2009) ليُسري نصرالله. تفسير لاحق على إعلان ندمه: القُبلة أكثر أذيّة من "البلطجة". أنقاشٌ هذا أو إفلاس كامل؟ الواضح كامنٌ في دعوةٍ إلى ممارسة "البلطجة"، بمعانيها ومسالكها و"ثقافتها" العنفية، بدلاً من القُبل. أيّ عالمٍ هذا؟ أيّ خراب؟ أيّ انهيار؟

قبل 3 أيام (6 أكتوبر/ تشرين الأول 2020)، تحصل مطاردة بين شابين في زقاق ضيّق في بيروت. إطلاق رصاص غزير. يُصاب شابٌ يعمل في حانة برصاصة تخترق معدته. ينجو الشاب من الموت بأعجوبة، أو ربما صدفةً (رغم أنّ وضعه غير سوي، وخطر فقدانه حياته قائمٌ). ينجو أناسٌ موجودون في الزقاق لحظة المطاردة بأعجوبة، أو ربما صدفةً. يكتب أحدهم قبل فترة إنّ الاستمرار في العيش اللبناني مصنوعٌ بالصدفة. أم أنّها أعجوبة؟ أيكون هذا نقاشٌ لن يُبدِّل شيئاً؟ يُقال إنّ مطلق الرصاص مُختفٍ. إنْ يُلقى القبض عليه، لن يُحاكَم، إذْ سيكون هناك حتماً من يحميه. الجُناة في لبنان أبرياء، والآخرون يستحقّون موتاً وتعذيباً وإهانة فهم ليسوا جناة. هذه "بلطجة" أو "تشبيح". لكنْ، أصحيحٌ أنّ القُبل تؤذي وتقتل؟ أيّ اهتراء هذا؟

تفقد الكتابة متعتها، وإنْ لوقتٍ قليل أو طويل، فالتكرار يُصيبها بعطبٍ، والروتين قاتلٌ في يوميات المهانة اللبنانية. كثرة المُشاهدة السينمائية الافتراضية تفقد، بدورها، كلّ متعة، وإنْ يطول أمدها فالكارثة آتيةٌ. لكنْ، لا مفرّ منها. كورونا سيبقى، طويلاً جداً، أخفّ قسوةً وبشاعةً وعنفاً من أوبئة عقل منغلق ومريضٍ؛ والتباعد الاجتماعي، الذي يفرضه وباء كهذا، لن يُلغي أبداً تباعداً مطلوباً، إنْ يُمكن حدوثه، مع "بلطجية" تفكير وممارسة، يتكاثرون بحماية منظومات تحكم بالقمع والفساد والنهب والـ"تشبيح".

يُريد "مهرجان ريف للأفلام"، لاهتمامه بالبيئة، تحويل الاحتفال بالسينما إلى ردٍّ على منتهكي خيراتٍ قليلة باقية، لكنّها تندثر. تُريد "أيام فلسطين السينمائية" مواجهة تردّي أوضاعٍ ينشأ (التردّي) من تفشّي كورونا. تُريد "قافلة بين سينمائيات" بحثاً في إعادة ترميم ذاكرة. يُفترض بهذا تبديد نتفٍ من غيومٍ تُظلِّل حياة فردٍ مُقيمٍ في موتٍ متجوّل. لكنّ للـ"بلطجيّة" رأياً آخر، يبدو أنّ هناك استحالةً في مقارعته.

المساهمون