عن النقد مُجدّداً: لا خلاص من الصِدام

05 أكتوبر 2022
جمهور سينمائي بين الصناعة والنقد: نزاع غير محسوم (Getty)
+ الخط -

 

يستحيل حسم المسألة. التواصل بين أطرافها الـ3 منعدمٌ بشكلٍ شبه كامل. قليلون، في كلّ طرفٍ، يهتمّون بالطرفين الآخرين. هذا مُزمن. سينمائيون/سينمائيات كثيرون يُريدون النقّاد تابعين لهم، ظنّاً منهم أنّ النقّاد "كتبة سلطان". سينمائيون/سينمائيات يُفضّلون صحافة وإعلاماً، غير معنيَّين بنقدٍ، يُنشر في صحفٍ ومجلّات ومواقع إلكترونية غير متخصّصة، ويُبثّ على شاشات تلفزيونية مختلفة، لأنّهم غير معنيّين وغير قادرين على نقاشٍ يُثيره نقدٌ غير تابع، وغير خادِم، وغير منبطحٍ أمام سلطان، مع أنّ نقاداً عديدين يتنازلون عن فعل الكتابة النقدية لمنافع وحسابات خاصة، لا علاقة لها بالسينما والنقد والصحافة/الإعلام.

المشاهدون/المشاهدات طرفٌ ثالثٌ، يتوق إليه سينمائيون/سينمائيات، فهو مصدر ربح وجماهيرية وشهرة، تتفاوت نسبها ومقوّماتها بين سينمائي/سينمائية وآخر. هذا حاصلٌ في الغرب أيضاً، وإنْ بشكل مغاير، فالغرب يمتلك ثقافة سينمائية تحصّن النقد من سطوة هؤلاء، وتفرض توازناً بين الأطراف الـ3، غالباً، مع وجود صدامٍ، أحياناً، بين الصناعة ونقّادها. في الغرب، مجلّات متخصّصة، والغالبية الساحقة من الصحف اليومية تمنح للسينما صفحات أسبوعية. هذا يصنع تكاملاً بين الصناعة والمُشاهدة والكتابة، لن يشهد العرب مثلها، طالما أنّ عاملين/عاملات عرباً في هذه الصناعة مقتنعون بأنّ النقد والحوار والتواصل "يجب" أنْ يكتفي بتبجيلهم/تبجيلهنّ، لا أنْ يكون نقداً يهدف إلى حوار وتواصل، وإنْ يتضمّن أسلوب كتابته، أحياناً، حدّة وعضباً وتوتراً، فالأهمّ كامنٌ في تشريح عملٍ أو عامل/عاملة، مهنياً لا شخصياً.

عربياً، نادرون/نادرات هم من يكترث بنقدٍ، والبعض يقرأ نقداً من دون اهتمام كثير، فالثقة بأفعاله أهمّ. الغلبة تريد نقداً "بنّاءً" فقط، وإلّا فلن يكون نقداً، بالنسبة إليهم/إليهنّ. هذه مفردة دخيلة على النقد، وغالب الظنّ أنّ من يتشدّق بها غير مُدرك معنى النقد ومعنى المفردة. النقد نقدٌ، لا يُشهِّر ولا يُروّج ولا يتصنّع ولا يتزلّف ولا يكون "بنّاءً". النقد نقدٌ، وهذا يعني أنّ الكتابةَ حوارٌ وتواصلٌ ثقافي ـ مهني، وإنْ تميل كتابات نقدية إلى حدّة في التفكيك والقراءة. النقد نقدٌ، ولن يتغيّر حاله لأغراضٍ ومصالح وعلاقات، وإنْ يرضى صحافيون/صحافيات بذلك، فكتاباتهم/كتاباتهنّ لن تكون نقداً، بل مجرّد كلامٍ يصلح لصحافة صفراء لا أكثر.

 

 

الكتابة مجدّداً عن النقد، والعلاقة المرتبكة بينه وبين الصناعة والمُشاهدة، منبثقةٌ من حالات قليلة حاصلةٌ أخيراً في أكثر من مدينة عربية. أيّ تعليق نقدي، مكتوبٍ كمقالة أو منشور في وسائل تواصل اجتماعي (وبعض تعليقات هذه الوسائل جدّي وجدير بالقراءة والنقاش)، تُشنّ عليه وعلى كاتبه/كاتبته حملات لن تخلو من تجريح واتّهامات وشتائم، فالسينمائي/السينمائية العربي، بالنسبة إلى نفسه/نفسها، غير مخطئ أبداً، وأفعاله/أفعالها تستحق مديحاً دائماً، و"نقداً بنّاءً"، وتشجيعاً مستمرّاً. التشجيع مفردة دخيلة على النقد أيضاً، كأنّ الناقد والصحافي السينمائي مطلوبٌ منهما أنْ يكونا بوقاً، وأنْ يتحوّلا إلى مدّاحين لا أكثر، فالانجاز "عظيمٌ"، يترفّع صاحبه عن كلّ نقدٍ.

الغالبية الساحقة من المشاهدين/المُشاهدات العرب، أو المتلقّين، كما يحلو للبعض وصفهم، غير مُكترثة البتّة بنقدٍ أو صحافة فنية، ولهذه الأخيرة أصولٌ وقواعد وأخلاقيات أيضاً، يندر وجودها في راهن عربيّ. الغالبية الساحقة تتعامل مع السينما كعمل ترفيهيّ، فتنفضّ عن الجدّي والمحرِّض على إعمال الفكر والعقل، وعلى إثارة نقاش. الغالبية العربية تظنّ أنّ مصائب اليوميّ كافيةٌ، فتحتاج إلى ترفيه وتسلية، يجب، بالنسبة إليها، أنْ تكتفي السينما بصُنعه، ولا شيء آخر أبداً.

لا خلاص من المأزق، عربياً. فالمسألة مرتبطة بثقافةٍ وتربية وسلوك، والثقافة منعدمةٌ، والتربية منغلقة ومتشاوفة ومتصنّعة، والسلوك منبثقٌ من أنماط عيشٍ وقناعات، تحتاج كلّها إلى تأهيلٍ جذري. رغم هذا، سيبقى النقد حاضراً، وإنْ تكن قراءته، عربياً، شبه غائبة. وسيبقى النقد تحريضاً على مزيدٍ من المُشاهدة والمتابعة والنقاش والتفكيك، وإنْ تُفضّل الغالبية العربية ترفيهاً وتسليةً. وسيبقى النقد حريصاً على إشاعة ثقافة المشاهدة والحوار، وإنْ يميل، أحياناً، إلى حدّة في الكتابة. وسيبقى النقد متحرّراً، كلّياً، من سطوة مصالح وعلاقات عامة، ومن مفردتي "بنّاء" و"تشجيع"، فلهذه كلّها أربابٌ عباقرة، بينهم/بينهنّ من يختبئ في النقد، مُقدّماً نفسه أمام الجميع كناقد، وهو/هي لا علاقة له أبداً بالنقد ومعناه وثقافته وأخلاقياته ومفرداته.

المساهمون