لا أحد يُنكر المكانة الهشّة التي بات يشغلها النقد السينمائي المغربيّ، في جامعات ومراكز ومهرجانات وصحف ومجلات، إذْ تكشف بعض مُمارساته الموسمية أنّه مُغيّب، بفعل عوامل ترتبط بارتباك أنماط كتابته، أو تهميشه من قِبَل جهات رسميّة، وصيّة على الشأن السينمائي المغربيّ. لذا، يبدو فهم مَعالمه، وضبط ميكانيزماته وتجاربه، أقرب إلى الاستحالة منه إلى المُمكن.
رغم أنّ مُختلف التجارب النقدية عملت على توثيق مُنجزها النقدي وأرشفته، عبر مقالات ومتابعات وحوارات ودراسات، لكنّها لم تكُن كافية لإضاءة المُعتَّم في سيرة السينما المغربيّة، وعلاقتها بالممارسة الفكريّة. لذلك، لا غرابة في أنْ تؤدّي هذه الكتابات دوراً سلبياً في تاريخ النقد السينمائي في المغرب، إذْ بات "تجميع" المقالات يدخل في إطار "مؤلَّف" في النقد السينمائي، مع أنّ شكل هذه الممارسة لم يعُد ينفع، نظراً إلى التحوّلات التي تشهدها الصورة السينمائية، يوماً بعد يوم.
في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، كانت السينما المغربيّة بحاجة إلى كُتيّبات ومؤلّفاتٍ تُعاين المُنجز السينمائي الواعد، وتُعرّف به، مغرباً ومَشرقاً، فراكم نقّاد مَغاربة عديدون كتباً اخترقت اللامُفكَّر فيه، تسهل قراءتها اليوم بحكم البُعد الارتجالي الذي طبع صفحاتها. فالقارئ يكاد لا يعثر، أحياناً كثيرة، على مقدّمة تُبرّر "تجميع" المقالات، مع غياب تامّ لنظام الأقسام والفصول، والاستطراد في التفاصيل، والاهتمام بالسياقات التاريخيّة والمفاهيم الفكريّة. لا شيء من هذا موجود، ومع ذلك، ظلّت الكتيّبات تُسمّى نقداً سينمائياً.
ربما يقول أحدهم إنّ المرحلة السياسيّة الحرجة، وبدايات تغلغل مفهوم الحداثة في النسيج الثقافي، فرض هذا النوع من الكُتب، كمُحاولة لتأصيل الفعل السينمائي في وجدان القارئ المغربيّ. لكنّ هذه الكتابات أثّرت بشكلٍ سيئ على مفهوم النقد السينمائي، في الأعوام اللاحقة على صدورها، وجعلت مؤلّفاته تقتصر على "الجمع"، من دون العناية بجوهر الكتاب، وما يطرحه من إشكالاتٍ وقضايا وتحوّلات.
عدم الوعي بأهمية النقد السينمائي كرّسته وزارة الثقافة في ندواتها الشحيحة، و"المركز السينمائي المغربيّ" في اللقاءات التي نظّمها. حينها، كانت ضرورية مراجعة التجربة النقدية المغربيّة، وتحصيلها، وإعادة التفكير بها، انطلاقاً ممّا تحتاج إليه من نقدٍ مُضادٍ لنماذج كتابته وأساليبها.
لذا، تبدو هذه الكتب السينمائية كأنّها فارغة. بل كأنّ القارئ يقرأ كتابة هيروغليفية معاصرة، وأغلبها مجرّد تغطيات وقراءات في تجارب سينمائية مُختلفة، تبقى على سطح الفيلم، وعلاقة المخرج/المؤلّف ببيئته واجتماعه وسيرته، من دون النفاذ إلى عمق الصورة السينمائية، وتفكيك شيفراتها، وإعادة بسطها، بما يجعل الكتابة النقدية تبني خطاباً بصرياً جديداً، يرافق ويلتحم بسيرة الفيلم، وفي الوقت نفسه، يصبو إلى تجريد ثقافي، يجعله كتابة فكريّة بامتياز.
ليس غريباً أنْ يُكرّس النقد السينمائي، اليوم، باعتباره خطاباً هامشياً على السينما المغربيّة، إذْ يُصادف المرء، في ندوات جامعية عن السينما، عاملين كثيرين في المجال البصريّ، باستثناء النقّاد. كأنّ دورهم لا يتعدّى الكتابة عن أفلامٍ، والتطبيل للقاءات "المركز السينمائي المغربيّ"، وتغطية أنشطته الموسمية، باسم النقد والمُعاينة.
بمنأى عن هذا الواقع المرير، تتوفّر السينما المغاربيّة على أقلام نقدية، تخلق الحدث دائماً، لكنّ مؤلّفاتها تظلّ هشّة ومُرتبكة، لسبب يتيمٍ، يكمُن في فهم طبيعة الكتاب السينمائي وجدواه أصلاً، وما الذي يجعله أشبه بمونوغرافية تاريخية تُرافق سيرة المخرج في علاقته بتحوّلات الصورة والكتابة والمونتاج والموسيقى. فهذه رحلة بصرية ـ فكرية، تحتاج إلى أدوات كثيرة من المَفاهيم، وإلى خطّ واضحٍ في الكتابة، وإلى معرفة واسعة في تاريخ الفكر الإنساني. المنهج يجعل الكتابة النقدية مُتراصّة ومُنتظمة ومُكثّفة، وتُفكّر أكثر ممّا تحكي.
هذا النّمط يظلّ صعباً، ويفتقر إليه حتى النقد السينمائي الفرنسي الجديد، المهتمّ كثيراً بالترفيه والقراءات العَابرة. القول بـ"الصعب" لا يجعل الأمر مُستحيلاً. فكتابة مؤلّف سينمائي تحتاج إلى أعوام من التأمّل والمُعاينة الدقيقة للأفلام، وتتبّع مسارات اختمارها، والتحوّلات التي تشهدها، لحظة عرض الفيلم، وأيضاً في ما بعد مرحلة العرض والمُشاهدة. المقصود بهذا، السحر الذي تُمارسه الصورة السينمائية، حين تجعل المُشاهد ينسج معها حياة ثانية.
معروف أنّ المرحلة التي تلت "الأندية السينمائية"، ولاحت في أفق مغرب الثمانينيات الماضية، شكّلت لحظة فاصلة في علاقة المغاربة بالسينما، وأسئلة الصورة والحداثة والتاريخ والذاكرة، إذْ تمّ الانتقال من الشفهيّ، الذي كرّسته الأندية، إلى الكتابة في صحفٍ ومجلات. في المرحلة نفسها، بدأ النقد السينمائي يُبلور لنفسه خطاباً مُستقلاً عن الثقافة، في بُعدها الأنثروبولوجي المُركّب (إدوارد تايلر)، مع صدور ترجمات جديدة لمقالات ودراسات وحوارات تتعلّق بمُجملها بالسينما الفرنسية (خاصة "الموجة الجديدة"). آنذاك، بدأ يتشكّل وعي الناقد المغربيّ بسينماه، وبتاريخها وذاكرتها، مع دخول الفلسفة في مُعترك الصورة السينمائية، وظهور رغبة نقّاد (على قلّتهم) في تفكيك الصورة، تأثّراً بمفهوم النقد السينمائي الذي بلورته آنذاك التجربة الفرنسية.
في الإطار نفسه، كان على العاملين في المشهد السينمائي تحصيل هذه الكتابات النقدية، وجعلها أرضية منهجية، أو مُختبراً بصريّاً ينقل هذه الممارسة النقدية من بُعدها التلقائي إلى فضاء أرحب، تغدو فيه الممارسة النقدية مسؤولية فكرية ووجودية بالنسبة إلى الفيلم المغربيّ.
عكس ذلك حصل. فمع بدايات وصول كتابات فرنسية مهمّة، تتعلّق بالصورة، لجيل دولوز وريجيس دوبريه ومارك فيرو، واكتشافاتهم المُذهلة في مجالي الصورة والتصوّر، كانت الثقافة المغربية التقليدية تُلخّص دور الناقد السينمائي بوصفه كاتباً ومُعايناً، يُعرّف بالمتن السينمائي المغربيّ، من دون أنْ يُقيم حدوداً مع طبيعة الفيلم، وخلق مسافةٍ نقديّة، تجعله يُفكّر ويتأمّل، ليبلور فكراً سينمائياً متيناً، يتقاطع في تشكّلاته مع العلوم الإنسانية والاجتماعية.
المُتأمّل في طبيعة المؤلَّف النقدي في المغرب يجد نفسه أمام 3 أنواع من الكتابة:
أوّلها، "النقد الإشهاري"، أي الكتابات/التغطيات المرافقة لأفلامٍ في مهرجانات سينمائية مغربية وعربية، يُفضّل أصحابها جمعها في كتبٍ، "خوفاً من أنْ تضيع"، كما يقولون. هذا الشكل يظلّ غالباً ومُتوفّراً بكثرة في الصحف والمواقع، وأحياناً في المجلات، بما فيها الفنّية، التي تدّعي الاختصاص والنوعية. يكتب روائيون وشعراء وقصّاصون في السينما، لوعيهم بالموضوع، أو لنزوة عابرة إزاء فيلم أو اقتباس أدبيّ أو ترسّبات الطفولة. لكنّ كتاباتهم تبقى مُبهمة وغامضة، وتقف خارج الفيلم، ولا تتجاوز المعلومات الصحافيّة التي يسهل الحصول عليها في زمن الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي.
معظم هذه الكتابات يظلّ مطبوعاً بالنَفَس الأدبي الوصفي الحكائي، الذي لا يُحرّك ساكناً إزاء الصورة وعلاقتها بمفهوم النصّ.
ثانيها، يُمكن تسميته بـ"النقد الحميمي" (السينيفيلي)، الذي يمارسه مُجمل النقاد المغاربة، لبعضهم كتابة مُدهشةٍ في تحليل الفيلم جمالياً، وإدخال الناقد في مُناوشاتٍ حسّية من المتن الفيلمي، لعشقٍ يجتاح المرء لحظة المُشاهدة، أو بسبب هواجس جمالية وفنية، تجعل الناقد يقترب من سطح الصورة السينمائية، ويُسائل عناصرها ومُكوّناتها، وعلاقتها بشعرية الفضاء.
يُقدّم هذا النوع كتاباتٍ مغايرة عن النوع الأول، ويتميّز بخصوصية نقدية وفنية. لكنّ الانتقال إلى تأليف كتاب يجعله باهتاً، لافتقاره إلى شروط منهجية، لا تُساعده على بناء المعرفة السينمائية وفق قالب نقدي، لأنّ تفكيره يبقى رهين عملية "الجمع"، التي كرّستها المُمارسة النقدية، فتضيع المادّة في ثنايا الورق، من دون وضع تصميمٍ منهجيّ، أو إشكاليّة للكتابة، أو نحتٍ مفاهيميّ لسوسيولوجيا الكتاب.
ثالثها، يُعوّل عليه الأكاديمي، المُدعو إلى التفكير السينمائي، والغارق في أفكار غيره. مُجمل هذا النقد الموجود في المؤلّفات عبارة عن تقطيع وتلصيقٍ نظريات غربية، تُسَقّط بشكل تعسّفي على الفيلم.
أحياناً، تُكتب مقالة عن سينما نبيل عيوش أو هشام العسري، تبدأ بـ"يقول سقراط"، فتعلم أنّ المادة إسقاطٌ سابقٌ عن نشوء الفيلم. وما كُتب عن فيلمٍ، يصلح لفيلمٍ آخر. ورغم أنّ الإشكاليّة أسالت حبراً كثيراً في تاريخ الثقافة المغربيّة، بين النظرية والتطبيق، لا يزال النقد السينمائي خاضعاً لهذه الثنائية، لعدم استيعابه أنّ النظرية مجرّد غطاء مفاهيميّ، لا يصلح أو يصدق دائماً في العمل السينمائي، رغم جماليّاتها، وما تمنحه من سحرٍ لحظة القراءة.
حين كتب جيل دولوز كتابه المهمّ عن السينما، لم ينطلق من نظرياتٍ جاهزةٍ أسقطها على الأفلام، بل جعل الفكر وإبداع المفاهيم ينطلقان من خصوصيات الأفلام نفسها، من دون الاستناد إلى عوامل خارجية، ترتبط بالمفاهيم والنظريات.