أيُفيد الانسحاب من لجنة تحكيم، أو ندوة متخصّصة، أو لقاء عام، إنْ يكن هناك ما ـ من يظنّ المُنسحب أنّه دافعٌ إلى انسحابه من تلك اللجنة أو الندوة، ومن ذاك اللقاء؟ باختصار، لا فائدة تُرجى من انسحابٍ كهذا، وإنْ يكن الانسحابُ موقفاً أخلاقياً، قبل كلّ شيءٍ. موقفٌ يكون احتجاجاً أو تعبيراً عن رأي، يُمكن لهما (الاحتجاج والتعبير) أنْ يكونا أكثر إفادةٍ إنْ يبقى المُنسحب حاضراً، شرط أنْ يجعل حضوره احتجاجاً وتعبيراً عن رأي بوسائل أهدأ، أبرزها توضيحٌ وتفسيرٌ، ونقاش أيضاً وأساساً.
الانسحاب، رغم أهمية أخلاقية له محصورة باللحظة الآنيّة، غير مُفيد إطلاقاً. الانسحاب يُخلِي المكان لآخر، ربما يُتقن استغلال كلّ لحظة وكلّ شيءٍ لقول روايته، ولا أحد في مُقابله يقول روايته، ليواجِه بالتوضيح والتفسير والنقاش رواية الآخر. لا فذلكة لغوية وتنظيرية في هذا. في حربٍ إسرائيلية جديدة على قطاع غزّة أساساً، بما يفوق كلّ توقّع إزاء وحشية المحتلّ وعنفه غير المسبوقَين، يُصبح الانسحاب مؤذياً، خاصة إنْ يحصل في غربٍ يُصرّ قادته على التزامٍ أعمى بآلة القتل الإسرائيلية، رغم صوت عالٍ لمسؤولين في إداراتهم، ورغم حراك شعبيّ في بلدانهم ضد إبادة إسرائيلية جديدة للفلسطينيين والفلسطينيات.
حضور مناصر أو متعاطفٍ أو ملتزمٍ بقضية فلسطين وشعبها، الآن وفي كلّ آن، في حيّز غربيّ له مكانة أساسية في الفن والثقافة والاجتماع، أي أنّ له صوتاً في المشهد الغربيّ، أهمّ من كلّ انفعالٍ وغليان وغضبٍ، ولا يُقارن إطلاقاً بشعبويةٍ، تستند إلى كلامٍ عام يميل إلى بكائيات وإنْ تكنْ مبطّنة، وإلى خطابيّةٍ، يبدو أنْ كثيرين وكثيرات غير منتبهين إلى مدى إساءتها إلى بلدٍ وشعبٍ وقضيّتهما.
كلامٌ كهذا منبثقٌ من الحاصل في الدورة الـ36 (8 ـ 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2023) لـ"مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية (إدفا)"، في افتتاحها، كما في حفلة إعلان نتائج التحكيم وتوزيع الجوائز (16 نوفمبر/تشرين الثاني 2023). في الافتتاح، تُرفع لافتة تقول: "من النهر إلى البحر فلسطين ستكون حرّة". بيان أول لإدارة المهرجان يجهد في تخفيف حدّة شعارٍ كهذا، غير مقبول في الغرب نهائياً (وعند بعض العرب أيضاً). استياء وانسحابات قليلة، أبرزها انسحاب الفلسطينية بسمة الشريف، المُقيمة في برلين، من لجنة تحكيم برنامج "تصوّرات". موقفٌ أخلاقي؟ طبعاً. لكنْ، ما فائدته؟ ما تأثيراته الإيجابية على غربٍ لا يزال إلى الآن يخضع لإعلامٍ موجَّه ومُسيطَر عليه من لوبي يهودي ـ إسرائيلي، رغم أصواتٍ قليلة تقول شيئاً مختلفاً وواقعياً؟
تلجأ الشريف إلى كلامٍ انفعالي ومتوتر، لن يكون بدوره نافعاً وإيجابياً ومؤثّراً، إذْ تكتب أنّها غير مالكةٍ كلماتٍ وطاقة لشرح "هذا الواقع" الذي نشرحه "منذ 75 عاماً". تُضيف: "ها نحن بعد 75 عاماً، وسط إبادة جماعية. يتّضح أنّ إدارة مهرجان وثائقي، يُقام في بلدٍ يؤمن بحرية التعبير، تعتقد أنّ حياة شعبٍ أهمّ من حياة شعب آخر".
أيُعقل هذا؟ كيف يُمكن لمن يُقدِّم نفسه مناضلاً من أجل بلدٍ وشعب وقضيّتهما، أنْ يتعب من قول وحراك؟ أنْ يُفسِّر ويوضح الأمور نفسها آلاف المرّات، طالما أنّ الغرب رافضٌ الاستماع، وطالما أنّ العربيّ، المناضل والمكافح والمدافع والملتزم، غير مُنتبهٍ إلى أدوات أخرى للقول والمواجهة والإقناع، وهذا مزمن وغير راهن أصلاً؟ أليس الانسحاب، رغم كونه موقفاً أخلاقياً، أسهل من مواجهة، يُفترض بها أنْ تكون يومية، وأنْ تُراكِم في غربٍ لا شك في وجود "مستمعين/مستمعات" فيه، شرط إدراك كيفية مخاطبتهم/مخاطبتهنّ؟
في حفلة إعلان جوائز الدورة الـ36 لـ"إدفا"، يُعلن مُحكّمون/مُحكّمات وفائزون/فائزات موقفاً متشابهاً في جوهره، إزاء الحاصل في قطاع غزّة: الدعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار، إدخال المساعدات الإنسانية المختلفة فوراً، تحييد المدنيين والمدنيّات، وخاصة عدم قصف المستشفيات والأحياء السكنية المدنية. كما أنّ هناك من يُذكّر بحلّ الدولتين. قرار إدارة "إدفا" ملتزم بإلغاء مظاهر احتفالية، لحظة إعلان النتائج وتوزيع الجوائز، ما يؤدّي إلى حضور قلّةٍ، ربما لن تكترث كثيراً بكلامٍ كهذا. لكنّ شعبوية متظاهرين ومتظاهرات، عددهم قليل أصلاً، تحول دون احتفال، ودون دعوات، ودون جمهور أكبر، لعلّ بعض هذا الجمهور يستمع ويهتمّ وينتبه، بفضل كلام هادئ وواقعي وحقيقي، يقوله أجانبٌ أساساً.
في راهنٍ كالحاصل حالياً، تصعب المواجهة بأساليب هادئة. هذا صحيح. هنا وهناك، تُمنع مظاهر تعاطف مع فلسطين، شعباً وتاريخاً وثقافة وفنوناً. هذا نتاج تراكم سلبيّ، لأعوامٍ مديدة، في تعامل عربي ـ فلسطيني خاطئ مع الغرب. لكنْ، لا بُدّ من المواجهة، ولا بُدّ من اعتماد لغة المنطق والعقل، رغم هول ما يجري في عائلات، كما في مستشفيات وأزقّة وأحياء ومدن بكاملها، وهذا الهول مؤثّر "إيجابياً"، وإنْ بدرجات مختلفة، في رأي عامٍ غربيّ، حالياً. لا بُدّ من إيجاد كلّ سبيل ممكن لخرق هذا الجدار الضخم، المانع إسماع صوت فلسطيني ـ عربي للغرب. ولعلّ أول خطوة في هذا الاتجاه متمثّلة بابتعاد كُلّي عن الانفعال والشعبوية والخطابية في حوارٍ مع الغرب (وهذا حاصلٌ من عربٍ مُقيمين في الغرب، رغم قلّة العدد)، والانسحاب من العام، لجنة أو ندوة أو لقاءً، خطوةٌ مؤذية، وإنْ تكن موقفاً أخلاقياً.