عظمة أي عمل كامنةٌ في براعة اقتباسه

28 أكتوبر 2024
غابريال غارسيا ماركيز: في كتابته جماليات صُور سينمائية (أولف أندرسن/Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- اقتباس رواية "مائة عام من العزلة" لغابريال غارسيا ماركيز يمثل تحديًا كبيرًا للسينما، حيث أعلنت "نتفليكس" عن سلسلة مقتبسة، مما أثار جدلاً حول إمكانية تحقيق اقتباس ناجح دون فقدان الجوهر الأدبي.
- تجارب الاقتباس السابقة لأعمال ماركيز وأدباء آخرين أظهرت تفاوتًا في النجاح، حيث لم تحقق بعض الأفلام التوقعات، بينما نجح آخرون في تقديم اقتباسات مميزة، مما يبرز أهمية البراعة في الاقتباس البصري.
- النقاش حول الاقتباس السينمائي يتجاوز تحويل النص إلى فيلم، ليشمل قضايا تتعلق بتقديس النصوص الأدبية، ويعتمد النجاح على قدرة المقتبس في خلق تجربة بصرية تضاهي جماليات النص الأصلي.

 

يقولون إنّ هناك صعوبة كبيرة (يُبالغ البعض فيقول إنّ هناك استحالة) في اقتباس "مائة عامٍ من العزلة" (1967)، للروائي الكولومبيّ غابريال غارسيا ماركيز (1927 ـ 2014)، للسينما، أو لسلسلة تلفزيونية. قولٌ كهذا مُثير لمشاعر وتفكير، تُختَزل بضحكٍ ساخرٍ إزاءها، وتشي بنوعٍ من ازدراء للسينما أساساً، وبشيءٍ من عدم تنبّه إلى أنّ الرواية نفسها مليئةٌ بها (السينما)، وربما هذا دافعٌ إلى القول السابق، رغم أنّه قابلٌ لأنْ يكون ركيزةً أساسية في الاقتباس.

إعلان "نتفليكس" أنّ سلسلة جديدة لها، مُقتَبَسة من تلك الرواية، تبثّها بدءاً من 11 ديسمبر/كانون الأول 2024، مُثيرٌ لسجال لاحق على سجالٍ يُثيره إعلان قرار إنتاجها قبل وقتٍ. اقتباسات أخرى، للمنصّة الأميركية نفسها ولغيرها، تختار رواياتٍ أميركية لاتينية تحديداً، غير دافعةٍ إلى سجال كهذا. "برايم فيديو ـ أمازون" مثلاً تفعل هذا عام 2022، مع "أنباء عن اختطاف" (ترجمة حرفية للعنوان الأصلي Noticia De Un Secuestro، والرواية مُترجمة مراراً إلى اللغة العربية بعنوان "خبر اختطاف") لماركيز نفسه (1996)، يُخرجها رودريغو غارسيا (ابن الروائي) والتشيلي أندرِس وود. أهناك من هاجم أو دافع؟

تجربة أخرى يُتوقَّف عندها: الدنماركي بِل أوغست يُنجِز من "منزل الأرواح" (1982)، للتشيلية إيزابيل ألليندي (1942)، فيلماً بالعنوان نفسه (1993)، لكنْ يغيب عن إنجازه توتّر السجال، علماً أنّ نقداً له غير قابل به، لأسبابٍ سينمائية. في رواية ألليندي هذه جماليات مُدهشة، غير مُبتعدةٍ كثيراً عن جماليات "مائة عامٍ من العزلة"، مع التنبّه إلى اختلاف في أسلوب كتابتها. "حبّ في زمن الطاعون" (1985) رواية لماركيز أيضاً، تُصبح فيلماً بالعنوان نفسه، يُنجزه البريطاني الأميركي مايك نيويل عام 2007، سيكون أقلّ من المتوقّع نسبةً إلى السيرة المهنية للمخرج، وأحد الأفلام السينمائية العادية للغاية (أو أقلّ من العاديّة) في لائحة أعمالٍ مُقتَبَسة عن روايات. لكنْ، لا سجال حينها كالحاصل بخصوص "مائة عامٍ من العزلة".

رواية "حبّ في زمن الطاعون" غير بالغةٍ جماليات "مائة عامٍ من العزلة"، رغم أنّ فيها حساسياتٍ بشرية تُشكِّل عصب علاقات فردية، لحظةَ تحوّل خطر في مسار حياة وعالم ومجتمعات وأفكار. سينمائياً، يُختَزل نقد فيلم نيويل بأنّه أقلّ من المتوقَّع (خافيير بارديم الممثل الأبرز فيه). لكنّ المسألة مرتبطةٌ، كعادة مزمنة عربياً، وغربيّاً أيضاً (وإنْ يكن للسجال الغربي مساحة أقلّ من تلك الممنوحة للسجال العربي، من دون تغييب حدّة الغربيّ وتوتره وقسوته غالباً)، بسجال سابقٍ على المُشاهدة. عادة عربية يبدو واضحاً استحالة التخلّص منها، ترتكز على تقديسٍ، بل على مُبالغة في تقديس أفراد وأفكارٍ، وهذا غير مُحتَمل، كما على شيطنة غير مقبولةٍ لأفرادٍ وأفكارٍ.

فرضية أنّ أدباً غير قابل لاقتباسٍ سينمائي إجحافٌ بحقّ السينما في اختراع كلّ شيءٍ، وببراعتها في هذا غالباً، مع أنّ كلّ شيءٍ لن يكون ذا سوية جمالية واحدة، أو ذا تشابهٍ في براعةٍ وتفنّن وإتقان. كما أنّ حماسة الدفاع عن السينما، في تمكّنها "الدائم" من اقتباس أيّ نصّ أدبي، مُبالغةٌ وادّعاء غير لائقَين بالسينما والأدب، وبالعاملين والعاملات فيهما. فكلّ رواية تحتمل اقتباساً بصرياً، وروعة الاقتباس معقودةٌ على براعة المُقتَبِس ـ المُقتَبِسة، ومدى امتلاكهما أدوات صُنعِ روعةٍ وترجمةِ براعة. روايات صادرة قبل اختراع السينما تقول إنّ في فضائها وسردها وحبكتها وتفاصيلها ما يتساوى (غالباً) مع صُور سينمائية في إظهار المُعتَمِل فيها من مشاعر وحالات وأقوال ومسالك وعلاقات وخبايا.

أمّا القول بأنّ الاقتباس يؤكّد تفوّق السينما على الرواية أحياناً، فمُكرّر رغم ميلٍ إلى التزامٍ نقديّ به، عامة. مثلٌ على ذلك: عام 2001، يُنجز الأميركي شون بَنْ "التعهّد"، مقتبساً إياه من "الوعد" (ترجمة حرفية لـDas Versprechen)، رواية (1958) فريدريش دورنمات (كاتب سويسري باللغة الألمانية، 1921 ـ 1990). في الفيلم، جماليات تبلغ تلك المشغولة في الرواية. لكنّ براعة شون بَنْ تصنع خاتمةً متناسبة كلّياً مع السياق الدرامي لحكاية جيري بلاك (جاك نيكلسون)، مع "تعهّده" (في مفردة "التعهّد" مفهومٌ ديني للوعد، يدفع من يلتزمه إلى حدود التضحية بالذات وبكلّ شيءٍ من أجل تحقيقه) بكشف فاعل جُرم. الخاتمة تلك مُعلّقة، بل مفتوحة على اجتهادات مختلفة، على نقيض خاتمة الرواية، التي توضح وتكشف.

ثمّ ما هذا التشدّد، إنْ يكن دفاعاً عن أدب وفن، أو عن رواية وفيلم؟ ماذا تعني شراسة الدفاع عن نصٍّ، مكتوب أو مُصوّر، كأنّ النصّ، مكتوباً أو مُصوّراً أو مُفكَّراً فيه، يُمنَع مسّه؟ إقرار ماركيز نفسه بعدم تمكّن أحدٍ من اقتباس "مائة عامٍ من العزلة" إلى السينما، يبقى رأي كاتب الرواية، الذي له حقّ دفاع "شرس" عنها. لكنّ الرواية هذه، وروايات أخرى له، تكاد تكون أقدر الروايات (وروايات أميركية لاتينية تحديداً) على أنْ تكون أفلاماً، بشرطٍ وحيد: اقتباس كهذا يحتاج إلى عبقرية اختراع بصريّ يُشَاهَد، كعبقرية الاختراع البصريّ الذي يُتقن ماركيز في صُنعه كتابةً.

هذه تساؤلات. عظمة غابريال غارسيا ماركيز (ليس في رواياته كلّها) تحضر، مع اختلاف شكل حضورها وأسلوبه، عند كثيرين وكثيرات. عظمة السينما كذلك. المسألة برمّتها معقودة على صانع/صانعة العظمة، في أدب وفن وغيرهما، كما في الاقتباس، فالاقتباس فنّ أيضاً، يحتاج إلى براعةٍ وخيال ومعرفة.

المساهمون