رغبة منه في احتراف التمثيل مهنةً له، يوقِّع نافيد (ساعد سهيلي) على عقد عمل مع جهة إنتاجية، ينصّ على عيشِ عزلةٍ كاملةٍ عن العالم، لـ3 أشهر متتالية، في مكان بعيد عن الحيّز الجغرافي، المُقيم فيه مع أهل وأصدقاء وحبيبة. يُضحّي بكلّ شيءٍ، ويخضع لطلب الانصراف عن كلّ أحدٍ، من أجل تمثيلٍ، "لا أكثر".
بداية "المدينة" (2022)، للإيراني علي حضرتي ـ الفائز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة، في الدورة الـ10 (21 ـ 29 سبتمبر/أيلول 2023) لـ"مهرجان طرابلس للأفلام" (شمالي لبنان) ـ عادية، لكنّها مُكثَّفة وسريعة من دون تسرّع: "كاستينغ" لشبابٍ وشابات، ثم لقاء بين 3 منهم/منهنّ، قبل تنصّل أحدهم من صديقيه، ثم مقهى، ولقطات تكشف حبّاً وأحلاماً. اللحظة، التي تؤسّس مساراً آخر، غير متأخّرة، وموافقة نافيد على شروط جهة الإنتاج حاصلةٌ، والرحلة إلى البلاتوه/الاستديو تُذكّر بشروطٍ، وبالمقبل من أيامٍ وأحداث وتفاصيل، يجب التزامها.
البلاتو/الاستديو عالمٌ مستقلّ، ومعالمه واضحة تماماً، تعكس مدينةً بمفهومها المتداول: أبنية وشوارع ومقهى، أناس يُقيمون فيها، أعمالٌ، حياة متكاملة. مدينةٌ غير محتاجة إلى شيءٍ، ففيها كلّ المطلوب لعيشٍ يومي عادي لأفرادٍ، يتفاجأ نافيد، في اللحظات الأولى لوصوله، بأنّهم/أنهنّ يمارسون حياتهم كأنّهم في العالم الحقيقي/الطبيعي. تدريجياً، يعتاد هذا النمط، فالهدف أهمّ من تساؤلات، تُقلقه لاحقاً. التمثيل يُلحّ عليه، فلا شيء ولا أحد يحول دون بلوغه وممارسته. لذا، يعتاد هذه المدينة وناسها، وينخرط في قواعدها وسلوكها، وقواعد ناسها وسلوكهم وعلاقاتهم.
المفاجآت المتتالية، في الأيام القليلة الأولى، تزول لاحقاً. هناك والدان له، يتعاطيان معه كأنّه ابنهما البيولوجي. هناك جيران، وعليه أنْ يعمل، فيلتقي متعهّد بناء، لكونه رسّاماً، فيُطلب منه "دهن" الجدران. محل لبيع المأكولات والمشروبات والحاجات اليومية، مقهى يرتاده للقاء ابنة الجيران، فرشته (مهتاب ثروتي)، التي سيُحبّها، ويتزوّجها. خلافات تحصل، لا تختلف عن خلافات مألوفة بين كثيرين. حياة عادية وطبيعية. هذا كافٍ لوصف المكان، بجغرافيّته وفضائه وناسه.
يُمكن، لراغبٍ في فيلمٍ مُسلٍّ ومتين الصُنعة والحِرفية، الاكتفاء باختزالٍ كهذا لأبرز مفاصل "المدينة"، المُشارك في الدورة الـ40 (1 ـ 11 فبراير/شباط 2022) لـ"مهرجان الفجر السينمائي" (إيران). لكنّ الفيلم يمتلك ما يُحرِّض على تمرينٍ، يدفع إلى غوصٍ في إيحاءات وإسقاطات، ستكون جهداً فردياً لمُشاهِد، يعتاد سينما إيرانية محمّلة برموز وإشارات وإيحاءات واحتيالات وخِدَع، كي تقول وتكشف وتُعرّي وتفضح، بمواربة سينمائية، والسينمائيُّ في المواربة حاضرٌ وأساسيّ، غالباً.
لكنْ، أيبتعد فيلمٌ كهذا عن السياسي والاجتماعي واليومي، أمْ أنّ ما فيه من انعدام خطّ فاصل بين الواقع والخيال/المتخيّل، وهذا حاضرٌ بجمالية سينمائية، دافعٌ إلى بحثٍ فيه عن السياسي والاجتماعي واليومي؟ أيكون ضرورياً البحث في المخبّأ، أمْ أنّ الفيلم لا مخبّأ فيه ولا مُبطّن؟ تساؤلات كهذه لن تحول دون تنبّه إلى لعبةٍ سينمائية جميلة، ترتكز على إلغاء كلّ حدّ فاصلٍ بين واقع وخيال، وبين حياة وموت، وبين تمثيل وعيشٍ. أمْ أنّ هذا كلّه متداخل ومتشابك، إلى حدّ يعجز عن التفريق بين التناقضات الثنائية؟ ألن يكسر نافيد كل جدار قائم بين التناقضات كلّها، رغم ارتباكه أولاً، ورغبته في فهم الحاصل وكشف ما فيه من "أسرار" ثانياً؟ أتكون موافقته على شروط العقد، وأحدها يقول بعزلةٍ كهذه لـ3 أشهر متتالية، تنتهي بالإعلان عن بدء التصوير، حشرية ساعٍ إلى تحقيق المبتغى، أو عاملٍ على اكتساب معرفةٍ غير مالكٍ إياها، وعلى اختبار تجربة غير مُختَبِر إياها؟
في 105 دقائق، تُختبر حالاتٍ ومشاعر وعلاقات، تصعب رؤية الحدود بينها، والفوارق والتناقضات. اشتغالٌ سينمائي يوهم بتبسيطٍ كثيرٍ، قبل انكشاف مسائل وحالات، رفقة شابٍ يتوه بين حبّ هناك وآخر هنا، وبين أهل هناك وأهل هنا، وبين أسئلةٍ هناك، تكاد تتشابه كلّياً مع أسئلة الـ"هنا". وهذا يؤدّي إلى سؤال آخر: ما الـ"هنا" وما الـ"هناك"؟ والأجمل كامنٌ في أنْ لا إجابة ولا حسماً، مع أنّ في الدقائق الأخيرة وضوحاً تامّاً، سيبقى مجرّد تعبيرٍ عن بداية الحكاية: العزلة في "مدينةٍ" واختبار تناقضات حياة وعيش وعلاقات ومشاعر.
التصوير (عليرضا براونده) متكاملٌ مع طبيعة الحاصل. أيّ أنّ الكاميرا تلتقط وقائع، ستكون متشابهة في سردها حكاية نافيد، بين ما يظنّ أنّه واقعه المسلوب منه لـ3 أشهر متتالية، وما يُفترض به أنْ يعيشه، إنْ يكن وهماً أو خيالاً، أو مجرّد تدريبات على التمثيل. أما التوليف (زيلا إيبكجي)، فمتوافقٌ مع سرديّة مبسّطة لتساؤل عميقٍ للغاية، يتمثّل بمحاولة إجابة (والمحاولة بديعة في السينما، التي لن تُقدِّم إجابات حاسمة، ولا إجابات غير حاسمة أيضاً): أين الفرق بين التمثيل واللاتمثيل؟ ما الفرق بينهما أصلاً؟