عبد الله الطايع (2/ 2): "يحقّ لي التحدّث عن الواقع الذي عشته"

11 سبتمبر 2024
عبد الله الطايع: "أعشقُ موسيقى فؤاد الظاهري في أفلام مصرية قديمة" (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

(*) تأثّرك بالسينما المصرية واضح في "كابو نيغرو" و"جيش الإنقاذ"، الذي فيه مقطع طويل من أغنية عبد الحليم حافظ "أنا لك على طول"، من "أيام وليالي" (1955) لهنري بركات. توظيفه الدرامي يكشف إلى أي مدى هذه العائلة رومانسية، رغم الفقر، وتستجيب للحب برهافة. كما أنّك تختتم بها الفيلم، فالبطل يختنق بدموع مكتومة حين يسمعها.

الأفلام المصرية ثقافة وحيدة تمكّنا من الحصول عليها في المغرب. بوصفنا عائلة فقيرة، علّمونا الكثير عن الحب والمجتمع، وعن أنفسنا. كوني مثليّ الجنس، أنقذتني كثيراً، لأنها سمحت لي بالهروب إلى هذا العالم الآخر كلّه.

 

(*) الفيلم خادع، إذْ ليس فيه موسيقى. لكنْ، هناك مؤثرات صوتية وأغنيتان مصادرَ طبيعية لها. إضافة إلى أجواء المكان التي تخلق موسيقى الفيلم.

إنّه الهدف. الصوت الذي اشتغلت عليه كثيراً في مرحلة ما بعد الإنتاج. أردتُ تحقيق هذه الشاعرية. أثناء كتابة السيناريو، شاهدت اللقطات في عقلي وعينيّ، ولم أسمع موسيقى. المنتج ضغط كثيراً عليّ لأضع موسيقى، وأنا رفضت بإصرار. لا أدري كيف تجرّأت على هذا.

 

 

(*) أنت لا تفضّل الموسيقى في أفلامك؟

فقط في هذين الفيلمين. ربما في أفلامي المقبلة، أضع موسيقى. أعشقُ موسيقى فؤاد الظاهري في الأفلام المصرية القديمة. أستمع إليها دائماً.

 

(*) أعود إلى كتاباتك، خاصة عند نشر جزء من سيرتك الذاتية التي صدمت العائلة. أتوقف عند حوار هاتفي بينك وبين والدتك، بعد نشر الطبعة العربية. تقول الوالدة: "سافرتَ إلى فرنسا، وأنا وأخواتك الفتيات نواجه الناس وعنفهم"، فبكيْتَ. أعتقد أنّك بكيت لأنك حسّاس إزاء كلماتها. لكنْ أرى أنّك بكيْتَ أيضاً بسبب شعور بالذنب. لماذا فعلت هذا؟ صحيحٌ أنّك تُريد ممارسة حياتك بحرية وبشكل صحي، من دون أنْ تكون في الخفاء. لكنْ: أكان لا بُدّ أنْ تُعلن هذا كتابةً؟ ألم يُتَح لك ممارسة حياتك من دون الإشهار بكتابة عربية، وتوريط عائلتك؟ أسرتك عاشت معاناة وألماً وتنمّراً فظيعاً. هم الذين حملوا عبء ما يقولون عنه "العار". لماذا كتبت؟

في سؤالك تناقضات عنّي إنساناً. عندما اتصلت بي أمي، قالت: "لماذا جاهرت بذلك؟ ألم تفكر في أخواتك الفتيات، اللواتي يُتَنمّر عليهنّ في أمكنة أعمالهنّ؟". لا إجابة عندي، لكنّي بكيت، وبكت هي أيضاً. فجأة، قلت لها: "لا أتحدّث عنّي فقط، بل عن المجتمع أيضاً". ردّت: "أي مجتمع هذا الذي تتحدث عنه؟ ألم أقل لك وأنت صغير أنْ ليس هناك شيء اسمه المجتمع". عند هذه الجملة، قلتُ لنفسي: "يبدو أنّها لم تفهم قصدي؟". أو للدقّة، ربما حاكمْتُها. قلت لنفسي آنذاك أنْ لا إمكانيات وقدرات فكرية لديها لتفهم ما أقول.

عند وفاتها عام 2010، شعرت أنّي كنت ظالماً جداً لها، لأنّها كانت تقصد بـ"ليس هناك شيء اسمه المجتمع" أنّ هذا المجتمع الذي تتحدّث عنه، والذي جعلها تمدّ يديها فقط لتوفّر لنا لقمة عيش، هذا المجتمع الذي سبّب ضربها وإهانتها وذهابها إلي الشرطة و"أنتَ شاهد على ذلك"، هذا المجتمع الذي لا يعترف بها امرأةً وإنسانة من البادية، ولا يعترف بالأشياء التي قامت بها، "أنا أيضاً لا أعترف به". هذه طريقة أمي في الاصطدام بالمجتمع، وفي إثبات الذات. عندما تحدّثت معها، وهذه في مرحلة... (يُفكّر ملياً) ربما حالة غضب وعدم نضج. أعتقد أنّي كنت أعاني فشلاً. لم أكن قادراً على أنْ أُعطي لأمي وقتاً للحديث وتبادل الآراء، كما أفعل معكِ الآن. أعتقد أنّي حاكمتها.

هذا أول شقّ من ردّي على سؤالك. لكنْ، هذا لا يعني أنّي أنا مثليّ الجنس لا حقّ لي في كتابة ما أريد. طفلاً، اغتُصبْتُ من الحي كله. هم كانوا يعرفون، لكنهم لم يفعلوا شيئاً. لا ألومهم جميعهم، بل أوجّه اللوم إلى السلطة المغربية آنذاك، التي جعلت عائلاتنا لا تدافع عنّا، لأنّ أهلنا، لو دافعوا عنا نحن المثليّين، لأصابهم ضرر أكبر.

هذه مشكلة مثلي/مثليّة الجنس والعابر للجنس. عائلاتهم كارهتهُم، وفي الوقت نفسه ليست مُعادية لهم. السلطة، بالقوانين، تجعلهم معادين. المشكلة أنّ هؤلاء المُصابين برُهاب المثلية الجنسية لا يدافعون عن أبنائهم وبناتهم في أوقات حرجة، في سنوات الطفولة. الطفل حينها يفهم أنّ عائلته، أمه وأخواته وأعمامه، لن تدافع عنه، وأنّه وحيد وغريب في الدنيا. هنا تحدث الجرائم التي يمكن أنْ تتخيّليها أمْ لا، والتي تعرّضتُ لها. أنقذتُ نفسي بنفسي. سافرت إلى فرنسا بجهدٍ فردي، لأنّ أمي لم تملك مالاً لمساعدتي.

لكلّ ذلك، أعتقد أنّه يحقّ لي التحدّث عن الواقع الذي عشته. طبعاً، عندما كُشف السرّ، أوّل ما فكّرت العائلة فيه السمعة وكلام الناس. لكنْ، بعد فترة، اعتادوا هذا وفهموه، وشعروا بتأنيب الضمير، وتذكّروا ما لم يفعلوه (يضغط على الحروف وهو ينطقها ـ المحرّرة). كالحاصل مع ممثلات وممثلين في مصر، فعائلات معظمهم ضدهم، وضد أنْ يمثّلوا: سعاد حسني ويسرا وهند رستم وغيرهنّ. ممثلات عظيمات، أعطين شيئاً أكبر للمجتمع، رغم أن العائلات ترفض عملهنّ.

كإنسان وكاتب ومخرج مثليّ مغربيّ، أرى نفسي مثلهنّ، في المشوار نفسه. ليس مثلهنّ بالضبط، بل في الرفض.

 

(*) كيف هربت من المغرب؟

لم أهرب.

 

(*) معذرة. كيف خرجت؟

درستُ في مدرسة حكومية مغربية اللغة العربية. أخي يكبرني بـ20 عاماً. يُتقن الفرنسية، ويُحضر كتباً ومجلات سينمائية كثيرة، كـ"بوزيتيف" و"كرّاسات السينما". ذات يوم، اكتشفت مدرسة للسينما في باريس، "فيميس"، وكان عمري 11 ـ 12 عاماً. قلت لنفسي، من دون تخطيط، إنّي أحب دراسة السينما. أنا متأثّر بالسينما المصرية، وأشاهد أفلامها في القناة المغربية، الوحيدة حينها التي تخصّص يوماً واحداً أسبوعياً بها. إنّها أكثر شيءٍ تأثّرت به في حياتي، بعد أمي وأخواتي والعائلة، وكانوا يتحدثون بالعربية، ويتحدثون كثيراً عن الفقراء. هذا لم يهتمّ بقوله مؤرخّون ونقّاد. السينما المصرية أبدعت، وخلقت طريقة سينمائية للحديث عن الفقراء في العالم العربي، منذ أربعينيات القرن الـ20 وخمسينياته. المُبهر لي أنّهم يتحدّثون عن الفقر ببساطة، لكنّ الحوار فيه إبداع.

 

 

هذه السينما مدرسةٌ لي عن الواقع العربي، عند مشاهدته، أقول إنّه يشبهنا. "بداية ونهاية"، الجهاد من أجل لقمة العيش، وكيف أنّ الحياة تجعلكِ شديدة القسوة مع أقرب الناس إليك. كنت أعيش هذا يومياً: تناقض وقسوة في الوقت نفسه. لم أكن وحدي. أناس آخرون عاشوه، وهذا جعلني أعرف أنّي، في يوم، سأصنع أفلاماً كهذه. لذا، قررت السفر إلى فرنسا ودراسة السينما. لكنْ، في صفّ البكالوريا، اكتشفت أنّ لغتي الفرنسية صفر، فقرّرت تعلّمها في جامعة الرباط.

 

(*) كان عقلك يُخطّط للمستقبل.

لكنْ بطريقة طفولية. درست الأدب الفرنسي. لا مال للسفر إلى باريس، ولا أعرف أحداً هناك. تفوّقتُ جداً في الأدب الفرنسي، والأول في خمس سنوات. ثم جاء خطاب منحة للطالب الأول. في الجامعة، كانوا أمناء فلم يسرقوها، وأعطوني إياها. هذا ساعدني على الخروج. درست الأدب الفرنسي في جنيف لعامٍ، والهدف باريس ودراسة السينما. ما حدث أنّي لم أدرس السينما هناك. الرحلة صعبةٌ وقاسية. عملت في مطاعم، وكنت جليس أطفال. واصلت في الأدب، وبدأت الكتابة الأدبية، وأكملت فيها.

 

(*) كنت تحاول إنقاذ حياتك.

تماماً. لم أذهب إلى باريس لفكرة أنّهم خلقوا الحرية. هذه عندي فكرة استعمارية، لأنّ كفاح أمي يجعل الإنسان واعياً أكثر من سيغموند فرويد وغيره.

 

(*) كيف حميتَ نفسك من الانصياع للصورة النمطية التي صوّرها الغرب عن العرب والعالم الثالث؟

من شخصية أمي وتصرّفاتها. كانت تصارع لحمايتنا وتربيتنا. غرست فيّ كلّ شيء عن الواقع والتاريخ المغربيين، لكن ليس من جانب أهل السلطة والملك والأعيان. هذا الحلم ليس عندنا في البيت. بالعكس، كانت تحطّم صورتهم وسلوكهم، وتسخر منهم.

حتى هذه اللحظة، ليس لي أي حلم بورجوازي. هذا يتضح في الفيلم، فالأبطال لا يملكون تطلّعات بورجوازية، لتفضيلهم النوم على الأرض. حتى في الفيلا يفعلون الأشياء نفسها التي يفعلها الفقراء. هذا لي ثورة وتجاوز. لأمي فضل في ذلك. اسمها مباركة. إنّها بطلة روايتي "العيش في نورك (Vivre A Ta Lumiere)"، الصادرة عام 2022.

 

(*) أتساءل عن سبب اختلاف شخصيتك عن الأخ الأكبر، وسرّ تأثّرك بأخواتك الفتيات، اللواتي كنّ أكبر منك، تجلس معهن، وتقتدي بهن، بينما شقيقك عبد الكبير لم يكن له نموذج قبله يهتدي به، فصنع نموذجه الخاص بنفسه، خاصة أنْ لا أحد أكبر منه ليمنحه القدوة.

يكبرني أخي بـ20 عاماً. وُلِد ونشأ في الفترة التي تلت خروج الاستعمار مباشرة من البلد. المغرب حينها لا يزال متأثّراً بالثقافة الفرنسية، والتعليم الحكومي بالفرنسية. عندما وصلتُ إلى التعليم، كلّ المواد باتت معرَّبة. مع ذلك، أخي أنقذ العائلة، بعد أنْ غرست أمي فيه أنّه لا بُدّ أنْ يتعلّم جيداً. هي أدخلتنا جميعاً المدارس والجامعات.

 

(*) لوالدتك وعي وإدراك بأنّ التعليم منقذ أولادها وبناتها. وعي شخصيتها لا يرتبط بكونها متعلّمة أم لا.

شكراً لك. هذا الوعي كان باكراً جداً. تخيّلي امرأةً وأماً فقيرة في خمسينيات القرن الـ20 تُدرك ما يدور حولها في المجتمع، وتعرف الطريق التي توصلها إلى أهدافها، وإنِ استغلت أولادها. جميعنا متفقون مع هذا الاستغلال، لأنّ هدفها الخروج من الفقر، لتحقيق الأمان لأولادها.

المساهمون