عن بيداغوجيا المعهد، وطرق تدريسه، واللجان التي تُعدّ الدروس والمحاضرات للطلبة، مروراً بالنقد السينمائي وآفاقه الفكريّة في السينما المغربيّة، حاورت "العربي الجديد" عبد الرزّاق الزاهر.
جئتُ إلى السينما هاوياً وعاشقاً، ثم دخلت عوالمها باحثاً ومُحلّلاً، بفضل توجهاتي الأكاديمية، من الأدب والمسرح إليها، إيماناً منّي بأنّ السينما خطابٌ مُركّب، يحتوي على بقية الأشكال التعبيرية، السابقة والمعاصرة. ساهمتُ مع باحثين عديدين في تأسيس أول شعبة خاصة بالإجازة التطبيقية في السينما، في كلية الآداب ابن مسيك في الدار البيضاء، أواخر تسعينيات القرن الماضي.
إلى أيّ حدّ استطاع البحث السينمائي تقريبك أكثر من مهام المعهد العالي لمهن السمعيّ البصريّ والسينما في الرباط، من حيث التفكير والتخطيط والتدبير لشؤونه التربوية والسينمائية؟
التحقتُ بالمعهد بعد حصولي على شهادتين جامعيّتين في السينما. شاءت الظروف أنْ ألتحِقَ به مُدرّساً فمديراً للدراسات، ثم مديراً. وجدتُ بوناً كبيراً بين ما اكتسبتُه من معارف نظرية، والبرنامج البيداغوجي الذي كان يفتقر، عند التأسيس، تصوّراً علمياً عميقاً. كان بحاجة إلى إعادة النظر في محتوياته، المتعلّقة بالشُعَب والمسالك والوحدات، وهذا قمنا به فعلياً في إطار التوأمة مع مدارس أوروبية، منها مدرسة الأخوين لوميير والمعهد الوطني للصورة في باريس ولا فِميس. هدفت الشراكة إلى ضرورة تجديد التكوين، ليتناسب مع المستجدات الحديثة. بالفعل، توصّلنا إلى برنامج بيداغوجي أكثر إنتاجيّة وتماسكاً، يُمكن العمل به بدءاً من العام المقبل. كما أنّي سارعتُ، منذ تعييني، إلى التعامل مع مختلف الفاعلين في القطاع، بعد تجهيز المعهد بالمعدّات التقنية والمعلومات. نحن الآن بصدد توسيعه، ليشمل سلك المهندس، إلى جانب "ماستر" الصورة والصوت.
على مُستوى التخطيط وبرمجة وحدات التدريس في المعهد: ما الجهات العلمية المعنية بهذا الدور، وما مدى قربها من الحقل السينمائي المغربيّ، إخراجاً ونقداً، ومن لدن متخصّصين وباحثين في تاريخ الصورة والفنّ عموماً؟
الجهة العلمية المخوّل لها إعادة ترتيب البيت البيداغوجي للمعهد تتمثّل في مجلس المؤسّسة، المُكوَّن من ممثلي الأساتذة والمهنيين، ناهيك عن استشارة التعليم العالي والبحث العلمي. تمّت الاستعانة بمكاتب الدراسة والخبرات، كما أنّنا نأخذ تقارير المجلس الأعلى للحسابات والمفتشية العامة ولجان الفحص بعين الاعتبار.
إضافة إلى عملك مديراً للمعهد، اشتغلتَ طويلاً في الكتابة والبحث السينمائي في المغرب. لكنّ الأعوام الأخيرة شهدت نوعاً من غيابٍ لك عن الكتابة. ما سرّ ذلك؟
المهام الإدارية تختلف عن البحث العلمي، ولعلّها تحدُّ من إنتاج الأستاذ الباحث. سعياً منّي إلى تجاوز هذه الصعوبة، حاولتُ، قدر الإمكان، التوفيق بين الأمرين، وتمكّنتُ من إصدار كتبٍ ودراسات. الأصل في البحث، لا في التدبير الإداري، وبمجرّد انتهاء مهمّتي الإدارية سأتفرّغ للتأليف والبحث.
هل يعني ذلك أنّ الناقد السينمائي لم يعُد مطلوباً في مؤسّساتٍ فنّية ومهرجانات وجامعات ومعاهد، لا كوسيط ثقافي، بل كمُفكّر قادر على تأمّل العملية السينمائية في بُعدها المُركّب؟
الناقد السينمائي مُكوّن أساسيّ في الثقافة السينمائية، ومطلوبٌ لرفع قيمة الصناعة الثقافية السينمائية. المعهد يُدرج النقد في الثقافة العامة، ويستعين بأسماء بارزة في النقد الأكاديمي لتعميق الدرس النظري. للمعهد شراكات مع المتدخّلين، كما مع "جمعية النقاد". نحن مع النقد الأكاديمي، المحكوم بخلفيات نظرية، وخطاب عارِفٍ ومُلمٍّ بخصوصيات اللغة السينمائية، لا النقد المبنيّ على الأحكام القيمية.
ما مدى حضور النقد السينمائي في برامج المعهد؟ هل هناك فعلاً مناصب مُخصّصة للناقد السينمائي؟
المُقرَّر البيداغوجي للمعهد لا يتضمن درساً في النقد، فهذا يأتي ضمنياً في مسالك الكتابة والإخراج والإنتاج. نأمل أنْ نخصّ النقد، مستقبلاً، بدرسٍ يتوزّع على 3 أعوام، يُرفَقُ بمُشاهدة الأفلام وتحليلها.
ما الذي حقّقه المعهد إلى الآن، على مُستوى تكوين تجارب سينمائية رصينة، تنحتُ مساراتها الفنية في السينما العربيّة الجديدة؟
مرّت 8 أعوام، تمكّن المعهد فيها من دفع عشرات المتخرّجين إلى السينما، في مهنها كلّها: إخراج وإنتاج وتصوير وتوليف ومُساعدة.. إلخ. هؤلاء أظهروا حِرفيّة ومهنيّة، إذْ نال بعضهم جوائز في مهرجانات مغربية وأجنبية، وبينهم من حصل على دعم المركز السينمائي المغربي والتلفزيون. اللافت للانتباه أنّهم بدأوا يؤثّثون المشهد السمعي البصري والسينمائي في المغرب.
ما أهمّ التخصصات السينمائية التي تحظى باهتمام الطلبة أكثر من غيرها، ولماذا؟
يتوزع الطلبة بين شعبتين، أولى تقنية تتضمّن الصورة والصوت وما بعد الإنتاج، والثانية فنّية، وفيها كتابة السيناريو والإخراج والإنتاج. تبقى الكتابة "كعب أخيل" في تكوين المعهد، يتجنّبها الطلبة اعتقاداً منهم أنْ لا مستقبل لها. ونظراً إلى غياب مناصب شغل خاصة بها، في السينما والتلفزيون، يظلّ الإخراج والصوت أكثر الاختصاصات جذباً لهم.
أشعر أحياناً بنوعٍ من غيابٍ للمعهد في الساحة السينمائية المغربيّة ومهرجاناتها، رغم دوره البارز في التكوين، بحسب الإمكانات الموجودة، التي تُتيحها دروسه. ما الذي تُراهن عليه اليوم في المعهد، على مُستوى التكوين؟
من بين الأدوار الأولى للمعهد، التكوين ـ المهني والنظري والتطبيقي ـ الذي يخوّل للطلبة المُجازين العمل في السينما والتلفزيون والوسائط الرقمية الحديثة، كما يُتيح لطلبة الـ"ماستر" التميّز، لأنّهم ليسوا منفّذين تقنيين، بل مبدعون يسعون إلى الارتقاء بالسينما إلى عوالم أكثر خلقاً وإبداعاً وتطويراً لمفهوم السوق. هذا لا يعني اكتمال التكوين، الذي يتطوّر مع المراس والدربة. لذا، يُنظّم المعهد دراسات تكوينية موازية، لتعميق وتأهيل كلّ الفئات المهنية، بشراكة مع مُكوّنين متخصّصين.
ما نسبة نجاح وإخفاق التجارب الجديدة التي تتخرّج من المعهد، علماً أن أسماء قليلة استطاعت فرض نفسها سينمائياً، مَغاربياً وعربياً؟
يصعب تقييم هذه التجارب، لأن عدداً هائلاً من المتخرّجين يتابعون دراساتهم العليا في المغرب والخارج، وبينهم من اختار البحث العلمي في إطار شهادة الدكتوراه، بينما تتوزّع غالبيتهم في الصناعة، في حين أنّ نسبة مهمّة لم تنجح في فرض وجودها في السوق، إذْ اختارت التوظيف، أو غيّرت توجّهها، ما يعني أنّ المعهد وحده قاصرٌ عن خلق أطر ناجحة، ما لم يكن الطالب مُعدّاً سلفاً لهذ الأمر، خاصّة لدى المتخرّجين الذين دخلوا المعهد عرضياً، علماً أنّ عشق السينما لدى الطالب يجب أنْ يكون مطلباً أساسياً.
في فترة رئاستك الحالية للمعهد، ما الشراكات التي تمّ إيجادها مع مؤسّسات سينمائية أجنبية؟
أبرم المعهد شراكات عدّة، منها شراكة توأمة مع مدارس أوروبية ومع مؤسّسات محلية، كالمعهد الوطني للصورة، والمعهد العالي للإعلام والاتصال، والمدرسة الوطنية للتجارة والتسيير البيضاء، بالإضافة إلى غرفة المنتجين وجمعية النقاد ومهرجان سلا الدولي لسينما المرأة، ومهرجان الرباط الدولي لسينما المؤلّف، فضلاً عن شراكتين مع المركزين الثقافيين الفرنسي والإسباني.
ماذا عن اللقاءات السينمائية الشهرية مع مخرجين ونقاد وكتاب سيناريو؟ إلى أيّ حدّ يُمكن لهذه التجربة الرائدة إثارة جدلٍ بين طلبة المعهد، وزيادة وعيهم وحبّهم للسينما ومتخيّلها؟
اللقاءات الشهرية تكملةٌ وتعميقٌ للدروس النظرية والتطبيقية. إنّها مُناسبة لمدّ الجسور بين الطلبة والمهتمّين والباحثين والمهنيّين، ومع ضيوفٍ أجانب، كالمُصوّر الإسباني خوسي لويس ألكاين، والمخرجين التونسي محمود بنمحمود والمصري خيري بشارة، والمنتج والمخرج الجزائري أحمد راشدي. تهدف هذه الحلقات الدراسية والورشات التكوينية إلى تنويع مصادر التكوين، وتوسيع آفاق الطلبة، وانفتاحهم على رؤى مختلفة.
صدر لك أخيراً كتاب "المتخيّل السياسي في سينما هوليوود". ما تقييمك ـ كباحثٍ في سيميائيات الصورة ـ للمُنجَز النقدي في الألفية الثالثة؟
تتنوّع كتبي بين التحليلين السردي والسيميائي للسينما والمسرح والإعلام السمعي البصري، والترجمة والنقد. أعتقدُ أنّ المُنجَز النقدي في العالم أدّى دوراً فاعلاً في تطوير السينما، وتحويلها إلى قضية فكر وتأمّل، ويحتلّ اليوم مكانة بارزة في البحث الأكاديمي، وإنْ كان النقد السينمائي في العالم العربي ميّالاً إلى النقد الموضوعاتيّ، يغلب البحث في المحتويات على حساب الأشكال التعبيرية، من لغة وخطاب، في بُعدها البنيوي، كما في القول والتداول. هذا لا يحجب محاولات نقدية جادة في المغرب، خاصّة تلك التي ينحدر أصحابها من البحث الجامعي والأكاديمي، باللغتين العربية والفرنسية. غير أنّ تلقّي هذا المُنجَز يظلّ أسير كتبٍ، تحتاج إلى قرّاء اعتياديين لا عرضيين. إنّها المعاناة نفسها التي يعرفها الكتاب العربي.
لماذا لا يستطيع النقد السينمائي المغربيّ خلق لغته الخاصّة، ومُتابعته النقدية الحصيفة بذاكرة الأفكار والتاريخ والأنثروبولوجيا. أو بعبارة أخرى: لماذا يبدو النقد المغربيّ حديث كُتبٍ عن كتب؟
استطاع النقد والتحليل أنْ يصنعا لهما لغة خاصة وخالصة للسينما، بفضل تجارب قليلة، تخلّصت من المقاربات الصحافية والأهواء النقدية المحكومة بالانطباعات الذاتية. لن تتأتى لهذا النقد حصافته ما لم ينطلق من خلفية فكرية وفلسفية، ومن مرجعيات عدّة توازن بين المقاربات الداخلية والخارجية. على الناقد أنْ يحمل مشروعاً فكرياً ثقافياً، للفنون فيه حيّز كبير. الفئة السوسيوـ مهنية، الخاصّة بالنقّاد في المغرب، محدودة، ويفتقر معظمها للتخصّص، أي أنّ نقدها يمسّ كلّ المجالات، بما فيها السينما، وتُسقِط مفاهيم وقضايا مستوردة من الأدب وغيره، ويغيب الحوار بينها. لهذا، يستوجب الأمر تخصيص كرسيّ جامعيّ لنقد الفنون والسينما.
هناك تجارب نقدية مهمّة، لكنّ وهجها يخفت سريعاً أمام مغريات الإخراج وإدارة مهرجانات سينمائية، وغيرها. ما الذي يجعل الناقد المغربيّ، أحياناً، ينسحب من المشهد السينمائي إلى فضاءات إبداعية أخرى؟
على التجارب النقدية أنْ تُعدّد وسائطها، وتنفتح على كلّ القضايا الخاصة بالسينما، حتى تحظى بصفةِ نقدٍ سينمائي حقيقي. هذا يستدعي معارف عن الصناعة السينمائية والثقافة السمعية البصرية، إذْ قلّما نجد نقداً يقف عند التأطير والإضاءة والتوضيب، أو عند اللقطة ـ المقطع، أو عند الزمن الفيلمي، أو السرد السينمائي. أمّا الحديث عن قضايا عامة، بما فيها المهرجانات والدعم الرسمي للسينما وأزمة الكتابة، فلا يقلّ أهمية عمّا ذكرته، إنْ اعتَمدتْ على مقاربات علمية ومناهج محدّدة، منعاً للأحكام الجاهزة، ورفضاً للتعميم.
استناداً إلى عبارة "نهاية التاريخ" لفوكوياما، هل نتحدّث اليوم عن موت النقد السينمائي؟
إذا لم يَرْقَ النقد السينمائي في المغرب إلى درسٍ جامعي أو بحث أكاديمي، فسيقضي بنفسه على نفسه، وسنكتفي من النقد السائد بالاستسهال والارتجال والتسرّع، كالمواكبة الصحافية اليومية. النقد المطلوب حصيلة بحثٍ مُضن، ويتأتّى من كلّ المصادر، ويظلّ في علاقة محايدة مع الفيلم، ويكون أساسه التحليل لا الإسقاط، ويكون الفيلم منطلقه ومنتهاه.
ماذا يجعل باحثاً سينمائياً مغربياً يهتمّ بالاشتغال وتفكيك ميكانيزمات السينما الهوليوودية، من خلال مفهوم المتخيّل السياسي، في مقابل الفراغ المهول الذي تُعانيه السينما المغربيّة اليوم؟
الاهتمام بسينما هوليوود جزءٌ من اهتمامي بكلّ الأنواع السينمائية، بما فيها السينما الأكثر رواجاً وتأثيراً، وانطلاقاً من كونها النصّ الغائب، المتحكّم في المتخيّل السينمائي التسويقي. هوليوود والبنتاغون متشابهان، ولهما الشيفرة الجينية نفسها. كتابي المقبل سيبحث في المتخيّل نفسه، لكنْ في السينما المغربية والعربية.
ما أهمّ الاستنتاجات النقدية التي خلصت بها في هذا المضمار؟ ما مدى انعكاس تمثّلات السياسة في السينما الأميركية على نفوس المواطنين الأميركيين ومَشاغلهم؟
من الاستنتاجات التي توصّلتُ إليها، استحالة الفصل بين السياسي وغير السياسي. السياسي يتمظهر بسهولة في كلّ جوانب الحياة، الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، فضلاً عن امتداد الاستوديوهات العملاقة في شركات قابضة، تجعل السينما أحد مصادرها في الاستثمار والتأثير. ناهيك عن نجاح السينما الأميركية في استلهام القضايا السياسية واقتباسها، وتحويلها إلى متخيّل سينمائي يؤثّر على أفق انتظار العالم. صارت السينما، من هذا المنظور الاستيلابي، نافذة أو مرآة، بدل أنْ تكون مجرّد شاشة. السينما الأميركية، باعتبارها قوة هادئة، نجحت في تحقيق ما أسماه تشومسكي "صناعة الوفاق".
في كتابك هذا، ألا ترى أنّ وظيفة السينما تتجاوز الأبعاد التخييلية والفنية والجمالية، إلى أسئلة تتعلّق بالواقع العيني الذي ننتمي إليه كأفراد؟
لا أرى فصلاً بين الأمرين. السينما، وغيرها من الأشكال التعبيرية، خطابٌ متخيَّل، يستمدّ لاوعيه الإيديولوجي من محيطه، كما من التاريخ. وظيفة السينما ليست في إعادة إنتاج الواقع المُعاش، بل في إعادة بناء هذا الواقع بناءً جمالياً. علماً أنّ الفنانَ، عامة، مُبدعُ أشكالٍ لا مُقلِّد واقع. لا مكان للمحاكاة في الفنّ والإبداع. هناك الإيهام بالواقع أو المحتَمل. كلّ شيءٍ في السينما متخيَّل، أو تمثّلٌ أقرب إلى الواقعيّ منه إلى الواقع.