قد لا تكون دمشق العاصمة العربية الوجهة الأمثل لإقامة الحفلات والمهرجانات، بعكس القاهرة مثلاً. ولا يوجد فيها العديد من المهرجانات الدولية، كقرطاج وجرش وبيت الدين، إلا أنها كانت تستقبل عدداً من المغنين العرب، ولا سيّما من لبنان، للقرب الجغرافي، والتشابه الثقافي والموسيقي بين البلدين.
لكن، مع بداية الثورة، وتوتر الأوضاع الأمنية، توقفت النشاطات الفنية والثقافية بالكامل، إلى أن عادت عام 2019، بعد هدوء الأوضاع في العاصمة التي شهدت عودةً للنجوم لإحياء الحفلات، أو لتصوير الأعمال الدرامية، مثل حفل نجوى كرم وعاصي الحلاني في منطقة الوادي، وحفل مايا دياب وجوزيف عطية في طرطوس، وحفل نوال الزغبي في دمشق، إضافة إلى مهرجان الياسمين الذي شارك فيه مروان خوري وملحم زين وفارس كرم وغيرهم، أو تصوير يوسف الخال لمسلسل "هوا أصفر"، وأمل بوشوشة لمسلسل "على صفيح ساخن"، وزيارة إلهام شاهين معرض دمشق الدولي.
اعتبر كثيرون هذه الحفلات والمشاركات نوعاً من التطبيع مع النظام، خاصةً بعد صمت معظم النجوم غير السوريين طيلة هذه السنوات، بعيداً عن الأسماء التي أخذت موقفاً حازماً من النظام، أو الأسماء التي أعلنت اصطفافها إلى جانبه وتأييدها لهذا المحور، مثل ملحم زين ومعين شريف، وآخرين ممن يحيون حفلات شبه دورية في فنادق ومطاعم سورية.
ومع بداية جائحة كوفيد-19، واتخاذ الإجراءات الاحترازية، أعلنت المغنية هبة طوجي إحياءها حفلاً في دار الأوبرا في دمشق، بقيادة أسامة الرحباني. تهافت السوريون على أبواب دار الأوبرا لشراء التذاكر، علماً أن العدد المسموح فيه كان قليلاً لضرورة التباعد آنذاك، ولكن تقرّر تأجيل الحفل بسبب ازدياد تسجيل إصابات بفيروس كورونا، وإغلاق الدار لاحقاً، على أن يُحدد موعد آخر للحفل.
مطلع العام الحالي، أعادت صاحبة أغنية "لا بداية ولا نهاية" الإعلان عن حفلين في دار الأوبرا في 9 و10 مارس/آذار، بالتعاون مع شركة شمس أكاديمي المنظمة للحفل. ومرةً جديدة، تهافت محبو هبة طوجي وموسيقى الرحباني إلى دار الأوبرا لشراء التذاكر. وبالفعل، بيع قسم كبير منها، علماً أن سعر التذكرة تراوح بين 70 و130 ألف ليرة، وهو مبلغ كبير نسبياً، قياساً لدخل المواطن السوري الذي يعيش في مناطق النظام. كما وزعت الشركة المنظمة، بالتعاون مع دار الأوبرا التي يديرها الموسيقي أندريه معلولي، بطاقات مجانية في الصفوف الأولى للشخصيات الرسمية والصحافية، وغيرها.
ولكن المفاجأة كانت في إعلان طوجي إلغاءها الحفل، عبر مقطع فيديو على تطبيق إنستغرام، من دون أن توضح مباشرة الأسباب، واقتصر قولها على أنها لا ترغب في الدخول في التشنجات الإقليمية والصراعات والجدل الذي لا علاقة لها به. ولكن المصادر أكدت أنها تعرضت والرحباني إلى ضغوطات من جهات سياسية معينة، لإلغاء الحفل، حفاظاً على استمرار عقود العمل المستقبلية لهما، خاصةً أن الاسم الرسمي للأوبرا هو دار الأسد للثقافة والفنون، وبالتالي كأن طوجي أتت لتغني في دار الأسد.
وأكدت الشركة الراعية، في بيان صحافي، أن لا علم ولا تنسيق مشتركاً لإلغاء الحفل، بل كانت مفاجأة لهم وللجمهور، وذلك بعد نشر طوجي الملصق الدعائي الخاص بالحفل عبر صفحتها الشخصية التي أرفقتها بعبارة: "لا يسعني الانتظار أكثر للقائكم جميعاً".
وفتح الجمهور السوري النار بعدها على الثنائي، معتبراً أنهما قلّلا من احترام الجمهور. وتباينت الآراء بين الذي شتم طوجي وشريكها، وبين الذي مجّدهما لعدم قبولهما الغناء تحت قبة الأسد، متناسين آلاف القتلى والضحايا.
وقارن الجمهور بين الموقف الذي تعرضت له طوجي والموقف الذي حصل مع فيروز عام 2008، عندما غنّت في دمشق رغم التحذيرات والأقلام التي هاجمتها، نتيجة توتر الأوضاع السورية اللبنانية بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ولكنها أصرّت على الغناء، ما اعتبره الجمهور موقفاً يخالف موقف طوجي التي رضخت للمعارضة، وهذا ما أكد عليه مدير الأوبرا أندريه معلولي، مستنكراً هذا التأجيل.
ولكن يبدو أن تبريرات طوجي لم تقنع وزارة الثقافة المسؤولة عن نشاطات دار الأوبرا، ما دعا وزيرة الثقافة لبانة مشوح إلى الإعلان في لقاءٍ إذاعي عن حرمان طوجي والرحباني من الغناء في الأوبرا السورية طوال حياتهما، معتبرةً أن ما قاما به "فصل ناقص جداً"، وأنها لم تكن تتخيل أن أحداً من عائلة الرحابنة، بتاريخها الكبير، يمكن أن يخضع لضغوط سياسية من أجل إلغاء حفلة. وأوضحت أنها لم تطلب منهما الصعود على هذا المسرح، بل هما من طلبا ذلك، ودُرس الموضوع من جانب لجنة البرمجة، قبل منح الموافقة لكون أسامة من عائلة الرحابنة، على حد قولها.
وفسر المتابعون هذه التصريحات على أن الوزيرة في حكومة النظام غير مقتنعة بموهبة طوجي والرحباني، بل وافقت فقط لاسم عائلة الأخير. كما ربط الجمهور بين إلغاء الحفل وبين "ليلة أمل" التي أحيتها طوجي في "فوروم دي بيروت" الذي نقلته قناة إم تي في مباشرةً بحضور شخصيات سياسية وفنية معروفة بمعارضتها للنظام السوري، كالوزيرة السابقة مي شدياق والفنانة إليسا، علماً أن مجموعة أبوظبي للثقافة والفنون كانت من شركاء هذه الليلة، وباتت علاقات أبوظبي ودمشق جيدة جداً، ولكن قيل إنها فاضلت بين "ليلة أمل" وليلة الأوبرا.
لم ترد هبة طوجي على تصريحات وزيرة الثقافة. وجد بعضهم في ذلك تجاهلاً أو لامبالاة بهذا القرار، على عكس كارول سماحة، زميلتها السابقة في المسرح الرحباني، التي اتهمتها بعض الجهات بمعاداة النظام السوري قبل حفلها في مهرجان دمشق عام 2019، ما دفعها إلى نفي هذه المعلومات عبر صفحتها على موقع فيسبوك، وأتت وأحيت الحفل. وكذلك سيرين عبد النور التي اضطرت إلى تبرير موقفها أمام النظام ونقابة الفنانين، كي يسمح لها النقيب الراحل زهير رمضان بتصوير مسلسل "قناديل العشاق"، فهل تفعل طوجي مثلهما في المستقبل؟ أم أنها تخلت عن فكرة الغناء في الأوبرا السورية؟