(*) كيف جاءتك فكرة تحقيق فيلمٍ عن سيمون شاهين؟
قابلته عام 1991، عندما كنتُ أدرسُ السينما في نيويورك. كنتُ أعزف العود، لأنّي درسته في المعهد الموسيقي في المغرب. عزفت العود في فرقته لفترة معيّنة. بفضله تعلّمت الموسيقى العربية الكلاسيكية الحقيقية، بمقاماتها وإيقاعاتها، إذ ينتمي إلى مدرسة الموسيقى العربية الأصيلة. عرفته أعواماً عدّة، وكنت أتساءل دائماً لماذا لا يوجد فيلمٌ عنه. مرّت الأعوام، وعدتُ إلى المغرب. بينما كنتُ أبحث عن شخصية عربية أصنع فيلماً عنها، فكّرت به فوراً. في الثقافة العربية عامة، ننتظر رحيل الناس لإنجاز أفلامٍ عنهم. نقابل أصدقاءهم، وأولئك الذين كانوا يرافقونهم، ليخبرونا حكايات عنهم. نحن حقاً نحبّ ثقافة الإسناد و"القيل والقال".
بالنسبة إليّ، لا قيمة لكلّ ذلك. قلتُ لنفسي إنّ سيمون شاهين يجب أن يتحدّث عن تجربته بنفسه. كان هناك شيئان مهمّان: أن يروي أفكاره وتصوّراته للأشياء، وأن نشاهده في العمل. العمل يتحدّث أقوى من الكلمات. عندما تشاهد شخصاً يعمل، تحصل على فكرة أمثل عن فلسفته. نفتقد حقّاً أفلاماً توثّق مقاربة اشتغال الفنانين، خصوصاً في الموسيقى. أنْ تَحضر تسجيلاً مثلاً، هذا سحر خالص.
(*) في الواقع، تسجيل البروفات جوهر الفيلم.
مهمٌّ لي أن أسجّل لحظاتٍ كهذه، سمح سيمون بالنفاذ إليها. ضروريّ أن يتمكّن العالم العربي من بلوغ عمق فنّه، لأنّ أفضل موسيقى عربية كلاسيكية اليوم، برأيي، تُعزف في الولايات المتحدة الأميركية. لجأ أفضل عازفي الموسيقى العربية ـ لبنانيين وفلسطينيين ومصريين ـ إلى هناك، بعد الحروب والاضطرابات المتتالية في الشرق الأوسط، في التسعينيات الماضية والعقد الأول من القرن الـ21. هناك ائتلفوا في مجموعات موسيقية، ودرسوا الموسيقى العربية بعمق، وفكّكوها وحلّلوها جيداً، واكتسبوا مكانة أكاديمية. هذا لأنّ الأميركيين يستمعون إلى موسيقى الثقافات كلّها من دون أفكار مسبقة. لا يجدون غضاضة في الاعتراف بما يروقهم.
كنتُ أرغب في مشاركة هذه التجربة برمّتها مع الآخرين، ولا توجد طريقة أفضل من صنع فيلم عنها. الفكرة الأصلية كانت في إعطاء الكلمة لسيمون شاهين، لأنّه إذا لم يوجد الفيلم في 10 أو 15 عاماً، فسيكتفي الناس بالذهاب إلى "يوتيوب" ليقولوا: "آه، سمعتُ عنه. إنّه يعزف جيداً". بينما إنجازاته في نقل المعرفة وإعادة تأهيل الموسيقى العربية سيلفّها النسيان، لا سيما جهوده المتعلّقة بنقل الموسيقى العربية من حالة "إما أن تكون تعرف كيفية عزف التقاسيم، أو لا تكون" إلى وضعية تمكّن المرء من دراسة التقاسيم، وفهم المقامات. عندما تسعى إلى عزف "كونشيرتو رقم 21" لموزارت، أو سيمفونية معيّنة لبيتهوفن، تجد مؤلّفات كاملة عنها على الإنترنت، وتاريخها، وكيفية عزفها، وكل التفاصيل. بينما لدينا معطيات نادرة عن كيفية عزف محمد عبد الوهاب، أو القصبجي، موسيقاه. المُحزن أن تتوفّر الموسيقى العربية على كل هذا الثّراء، بينما لا يوجد معهد واحد في العالم العربي برمّته يُمكنك فيه أن تدرس الموسيقى العربية بشكل صحيح، كما يوجد في الولايات المتحدة.
(*) يدلّ "أسرايفي"، الذي يدور في بلدتك الأصلية، و"سيمون شاهين"، الخاص بشغفك بالموسيقى العربية، على أنّ الارتباط الحميم بمواضيعك ضروري لعملك الوثائقي.
طبعاً. هذه أشياء تؤثر فيّ بشدّة. إنّها أفضل بوصلة لقرار صنع فيلم. عندما يتعيّن عليك الاستيقاظ الساعة 5 صباحاً، ودرجة الحرارة ناقص 5، لتصوير مشهد، الأفضل أن تختار مواضيع وأشياء تحبّها. كوننا استطعنا السفر مع شاهين لتصوير الفيلم، مع كلّ الصعوبات التي تحمّلناها، فذلك عائدٌ فقط إلى أنّي أحبّ هذا العمل. الرابط ضروريّ لي. مثلاً، إنجازي مقابلة مع كياروستمي، لقرص "دي في دي" خاص بـ"كلوز ـ آب" (المقابلة موجودة في نسخة مطبوعة في "كرايتيريون"، صدرت عام 2010 ـ المحرر) يعكس حقيقة أنّه أحد الأفلام النّادرة التي أحضرتها معي عندما عدتُ من الولايات المتحدة، وشاهدته مرّات عدّة. عندما ذهبت لإجراء المقابلة، كنتُ أكثر استعداداً مما كنتُ أعتقد. الموسيقى والسينما، بالنسبة إليّ، ينتميان إلى جذر شغف واحدٍ. تعلّمتهما في الوقت نفسه تقريباً.
سيمون شاهين، كأسرايفي، شخصٌ يعمل. أنْ تكون مع شخصية تشتغل كل يوم، هذا يصنع مادة جيدة لفيلمٍ، خصوصاً أنّ كليهما يطمح إلى التميّز من دون غشّ.
(*) أخبرتني أنّه من التقاليد الأميركية تكريس أفلامٍ وثائقية لأشخاصٍ يعملون بجدّ، كما فعل الأخوان مايزلز مع مندوبي البيع.
بالتأكيد. ستادز تيركل، الصحافي الأميركي المشهور، ألّف كتاباً بعنوان "العمل"، جمع فيه مقابلات ـ أجراها في جولة له في الولايات المتحدة ـ مع أشخاصٍ حول ما يفعلونه طوال اليوم، وكيف يشعرون حيال ما يشغلونه من وظائف: ممثّلون، مزارعون، مومسات، مُدرّسون، نُدُل، وغيرهم. إنّه نوعٌ من الاحتفال بقيمة العمل. يُمكن للعامل أن يكون موسيقياً أيضاً. لدينا فكرة مسبقة عن الفنّان أنّه شخص لا يستيقظ حتى مغيب الشمس، ليعمل بضع دقائق فقط، قبل ذهابه إلى اللّهو والسهر، ثم النوم مُجدّداً، وأنّ الإلهام مهمّ للفنّ. لا. الفنّ عمل شاقٌّ قبل كلّ شيء، وجهد كبير، وتركيز فائق. إنّه عمل يتطلّب بين 12 و16 ساعة يومياً، لتحقيق أشياء مُرضية.
(*) ماذا أفادتك معرفتك بالموسيقى، خصوصاً في ما يتعلق بالانتقال السلس بين المَشاهد، إذ نشعر أنّك تُضحّي بكلّ شيء من أجل استرسال الموسيقى، فينتهي بك الأمر، أحياناً، بملابس الشخصيات التي لا تتناسب في المشهد نفسه، بينما الموسيقى مترابطة؟
تُتيح لي معرفة الموسيقى القيام بالمونتاج الصحيح، ومعرفة مكان القطع. حتّى من أجل مشهد ارتجال مقطوعة أو تقسيمها، عليك أن تحرص جيداً بشأن المكان الذي يُمكنك القطع فيه. عندما ترتجل، عليك أن تمرّ بتتابع ما يُسمّى بالأجناس. مثلاً: راست ثم سيكاه ثم جهاركاه والنوا. عليك اتّباع هذا المنطق في المونتاج، إذا أردْتَ تقليص المشهد من دون تشويه القطعة.
في ما يتعلق بالملابس، هذا يتأتّى من حقيقة أننا صوّرنا جلسات تدريبية عدّة على الموسيقى نفسها. هناك قاعدة رائعة في إنجاز الفيلم الوثائقي، تقول إنّه حتّى لو تكرّر الفعل نفسه مرّتين أو ثلاث، يجب دائماً تصويره. لأن ما ستحصل عليه في تصوير اليوم، لن يشبه أبداً ما ستقوم بتصويره غداً أو بعد 3 أسابيع. حتى المقابلات، أحاول إجراءها مرّتين أو ثلاث مرّات عموماً، لخلق القليل من التطوّر. ذلك القوس نفسه الذي نستخدمه في القصص التخييلية، لنشعر بتغيّر الشخصية طول الفيلم. عليك أن تنتبه إلى هذا.
تساعد الموسيقى كثيراً، بطريقة لاشعورية، على تشكيل الإيقاع. بالنسبة إليّ، دائماً الموسيقى أهمّ بكثير من الصورة. ضحّيتُ غالباً بالصورة لصالح الموسيقى، من دون أن يعني هذا أنّي لا أولي أهمية للصورة.
(*) كيف كانت تجربة بثّ الفيلم على قناة "الجزيرة"، ثم في "مهرجان وودستوك للفيلم"؟
بعد بثّه على "الجزيرة"، اتّصل بي مشاهدون من فلسطين والولايات المتحدة وأماكن أخرى. بعثوا لي رسائل جميلة جداً، ليُشاركوا معي ما أثاره الفيلم فيهم. عندما أرسلته إلى "وودستوك"، اختاروه فوراً، ثم سألوني عمّا إذا كان سيمون شاهين يرغب في المجيء والعزف بعد عرضه. أخبرته بذلك، فوافق.
المثير للاهتمام أنّ الفيلم افتتح المهرجان في صالة تتسع لـ400 شخص، كانت ممتلئة. رائعٌ أن تعيش ردّ فعل الجمهور مباشرةً على الفيلم، خصوصاً على مشاهد محدّدة منه. المذهل قبل كلّ شيء رؤية فنّانين يخرجون من الشاشة ليقدّموا عرضاً موسيقياً أمام الجمهور: سيمون شاهين وفراس زريق وطارق رنتيسي.
(*) يشهد الفيلم الوثائقي في المغرب نوعاً من إقبالٍ في الأعوام الأخيرة، رغم أنّ آليات إنتاجه لا تزال ضعيفة. هناك عدد غير قليل من المخرجين لديهم موهبة، لكن التلقّي يكون إشكالياً دائماً، مع توزيع مُنعدم، وجمهور قليل للغاية في صالات عرضه. برأيك، ما الذي يمنع الأفلام الوثائقية المغربية من تحويل هذا الإقبال النسبي إلى إقبال حقيقي؟
يجب خلق الجمهور. يحتاج الناس أولاً إلى معرفة الفرق بين الريبورتاج والفيلم الوثائقي. صحيحٌ أنّه تصعب محاربة التنميط الذي يمارسه التلفزيون ووسائل الإعلام الشعبية الأخرى. لكنّ المؤسف أنّه، حتى في السينما، يصعب التوافق والتواصل بيننا. مثلاً، فيلم "سيمون شاهين..." مُتاح على يوتيوب، لكنّ قليلين شاهدوه، وقليلين من يتحدّثون عنه، لأنّ الاهتمام بالموسيقى الكلاسيكية العربية نادرٌ. هذا يحدث في الأدب والثقافة أيضاً، ويُظهر أنّ المشكلة أكبر من حالة فيلم واحد. لكن، لا يمكننا الانتظار لتكون هناك منظومة تسمح لهذا النوع من الأفلام بأن يُشاهَد على نطاق أوسع. ينبغي الاستمرار في صنع الأفلام. لأنّ الوقت يمرّ، وفرص توثيق شخصيات فريدة، كشاهين، ثمينةٌ للغاية.
(*) هناك فقرات عرض بدأت تُخصَّص للأفلام الوثائقية، كـ"قصص إنسانية"، على "القناة الثانية"، مساء كلّ أحد.
أجدها مبادرة ممتازة.
(*) طبعاً، إنّها جيدة جداً، لكنها لا تزال غير كافية، والجمهور، عند مشاهدته الأفلام، يفتقر إلى الأدوات الكافية لتذوّقها، وتفكيك خطابها، وإقامة نقاشٍ حقيقي معها وحولها.
هذا دور الصحافة والنقّاد أيضاً.
(*) بالتأكيد. لكنّه دور المنظومة التعليمية أولاً. يحتاج الناشئون، في المدارس والمسارح، إلى اكتشاف ماهية الفيلم الوثائقي، ليُصبحوا مُشاهدين فطنين له عندما يكبرون.
نعم، لكنهم فعلياً مشاهدون واعون في الواقع، عندما يخبرونك أنّهم شاهدوا فيلماً وثائقياً على "نتفليكس"، عن غزو الفضاء أو عالم الحيوانات. لديهم هذا الفضول، ونظرة معينة إلى الوثائقي. علينا فقط توعيتهم أنّنا في المغرب أيضاً نصنع أفلاماً وثائقية. مثلاً، شاهد 3 ملايين شخص "أسرايفي" ليلة عرضه التلفزيوني. أنا متأكدٌ من أنّ الناشئين جزءٌ لا يستهان به من هذا الجمهور. كل ما علينا فعله مرافقة الأفلام في الصحافة ووسائل الإعلام، لنبرز للناس خصوصية ما سيشاهدونه.
صغيراً، أحببتُ مشاهدة أفلامٍ كان يُقدّمها نور الدين الصايل في برنامجه التلفزيوني، الذي كان أوّل مدرسة سينما أحضرها، لأنّه كان يُشرّح الأفلام ويُعطي الأدوات والمفاتيح اللازمة لمشاهدة الأفلام الكلاسيكية. علينا مرافقة الفيلم الوثائقي بالخطاب اللازم لتقديمه. مثلاً، عند عرض فيلم وثائقي على التلفزيون، سيكون جيداً إجراء مناقشة مسبقة، لتقديمه مع مخرجه، وشرح فكرته الأساسية، وإعطاء نبذة عن تاريخ الفيلم الوثائقي. هذه أشياء تخاطب ذكاء المُشاهد. الأكثر ذكاءً في معادلة عرض الفيلم الوثائقي ليس المخرج، بل المُشاهد. التقليل من ذكاء المتفرّج أفضل طريقة لخسارة الرهان.