ضد القافلة

17 يونيو 2023
الناصر خمير مهموم بقضايا الحضارة العربية الإسلامية (تزونينو تشيلوتو/Getty)
+ الخط -

 

ما الذي يجعل فيلماً سينمائياً صالحاً وقابلاً للمشاهدة والتأثير بعد أربعين عاماً من إنتاجه؟ الإجابة عن هذا السؤال ترتبط بأمرين: ثانيهما الصلاحية الفنية والتقنية، وهذه صار مقدوراً عليها هذه الأيام، في ظل التطور التقني في صناعة السينما. أما أولهما فهو المحتوى الفني الفكري الإبداعي القابل للفهم والمفاجأة والتفسير والتأويل في الحاضر كما في الماضي. بمعنى أن العمل الفني يطرح أسئلة وإشكالات قديمة-جديدة، كالقيم الإنسانية، من حب وشجاعة ونبل، مع أضدادها، عبر صراعات درامية تعطي للعمل ديمومة واستمراراً.

أتحدث هنا عن الفيلم التونسي "الهائمون في الصحراء" (1984)، للمخرج الناصر خمير. يُدرَّس الفيلم في عدة جامعات عالمية لطلاب الفن، وقد أعيد ترميمه ورقمنته بمواصفات تقنية عالية، وعُرض في صالات السينما عام 2018، وصنف من قبل مهرجان فينيسيا الدولي كواحد من أهم الكلاسيكيات السنيمائية العالمية، وقد شاهدته في قطر بمبادرة من مؤسسة الدوحة للسينما ضمن تكريم المخرجة التونسية الراحلة مفيدة التلاتلي التي عملت كمونتير لهذا الفيلم الرائد.

الفيلم جزء من ثلاثية الصحراء تضم، إلى جانب "الهائمون في الصحراء"، فليمي "طوق الحمامة المفقود" و"بابا عزيز، الأمير السابح في روحه". يستند الفيلم الأول لقصة كلاسيكية في السينما العالمية؛ إذ يُرسل معلم من العاصمة إلى قرية نائية، وهي هنا أطلال قرية دارسة في الصحراء، يعتقد أهلها أنهم بقايا المطرودين من جنة الأندلس، ويحلمون بالعودة إلى قرطبة. يسكن المعلم عبد السلام في منزل شيخ القرية، وتحديداً في غرفة ابنه، أبو بكر، المختفي كغيره من شبان القرية، وهم من يسمون الهائمون، وتحتاج عودتهم إلى فك السحر أو اللعنة عنهم، بكتاب موجود-مفقود، قد يكون كتاب الجفر المنسوب لعلي بن أبي طالب. يهيم الشباب في الصحراء بعد أن يتركوا رسماً على الجدار، يمثل براق النبي محمد. لا يفهم المعلم المغلوب على أمره ما يجري حوله، إذ لا مدرسة ولا حياة اقتصادية، وشباب القرية غائبون، وبقية أهلها غارقون في خرافات ومساع لا جدوى منها للبحث عن كنز مفقود. سرعان ما ينخرط معلم القرية في مشاكل وهموم أهلها، ويحمل مشعل المعرفة من عالمها المتصوف، ويستطيع فك اللعنة عن الشباب الهائمين، ليختفي بعدها، فيأتي ضابط شرطة للتحقيق، فلا يستطيع فهم ما جرى، ويترك القرية على حالها ويعود إلى العاصمة حانقاً على الصحراء وأهلها، ويصفهم بالمتخلفين.

وفي ذلك إشارة إلى عدم قدرة النظام التونسي، بعد الاستقلال، على فهم وتنمية المناطق النائية. ويحصل نقاش عميق وعقيم بينه وبين مساعده الكاتب الذي يردد أشعار الحلاج ويعود إلى القرية، خاتماً كلماته لضابط الشرطة بعبارة: "لا لغز إلا الدهر".

والمخرج الناصر خمير مهموم بقضايا الحضارة العربية الإسلامية، فهو يركز على أعلام التنوير وكبار المتصوفين، وعلى المعرفة وحرق الكتب في الموروث العربي، ويناقش قضايا التراث وتأثيرها على حاضرنا، كما في كتابه وفيلمه "شهرزاد أو الكلمة ضد الموت"؛ فهو يؤمن بأن التاريخ مساهم رئيسي في الواقع الراهن ويردد دوماً: "لقد اخترت ألا أكون في القافلة، الواقع مبني على التاريخ، ونحن ما ورثناه من الماضي".

اختار المخرج، وهو روائي وخطاط ورسام، أن يقتفي آثار الأندلس في حياتنا المعاصرة، فنراه في الثلاثية يؤكد على البحث عن قرطبة، وتردد أفلامه الموشحات الأندلسية. وبعد الثلاثية، ينتج أفلاماً عن شخصيات أندلسية، كفيلمه "البحث عن الشيخ محيي الدين"، وفيلمه عن ولادة بنت المستكفي، بعنوان "أحب ولادة". يقول مخرجنا: "أحب أن أخدم الحضارة العربية الإسلامية وأن أقدم الإسلام بصورته الصحيحة". ويؤكد أن إسهامنا العربي في اختراع السينما مر عبر تطوير العالم ابن الهيثم علوم البصريات، ويهيب بصناع القرار في البلدان العربية دعم السينما الحقيقية، وليس مشاريع الاستعراض والحفلات والمهرجانات التي لا تترك أثراً.

دلالات
المساهمون