ضحايا الإعلام: في الأعماق مع خمسة أثرياء

22 يونيو 2023
ما هي قصص هؤلاء الذين ابتلعهم البحر؟ (الأناضول)
+ الخط -

عادةً ما تكون المقارنة أو المنافسة في حجم المآسي، علامة من علامات البؤس: أي مأساة أكبر؟ أي ضحية أكثر استحقاقاً للتعاطف؟ أي ظلمٍ أشدّ مضاضةً؟ لكن في بعض الحالات يبدو الانحياز إلى ضحية على حساب ضحية أخرى، أو تسفيه مأساة في إطار تعظيم مأساة أخرى، فاقعاً ووقحاً، لدرجة تصبح المقارنات بديهية.
لنأخذ على سبيل المثال تغطية الإعلام الغربي للحرب المستمرة في أوكرانيا، وتغطيته لمعارك السودان. أو لنترك المعارك جانباً ونتحدثّ عن الغواصة التي لا تزال (حتى كتابة التالي) مفقودة في البحر، وعلى متنها 5 أثرياء من العالم، قرروا النزول إلى أعماق البحر للاطلاع على حطام سفينة تايتانك.
يجنّد الإعلام الغربي، الأميركي بشكل خاص، فريقه لمتابعة التطورات: 5 تقارير رئيسية على الصفحة الأولى على موقع "نيويورك تايمز"، بينها تغطية حية لكل التطورات، 3 تقارير على صدر الصفحة الأولى لموقع "واشنطن بوست"، 8 تقارير على موقع CNN، أضف إليها تغطية مفتوحة على شاشة الشبكة، على NBC لم يختلف الوضع... تغطية مكثفة، مع قصص إنسانية عن كل واحد من المفقودين داخل الغواصة.
كل ذلك يبدو مفهوماً من مختلف الزوايا الإعلامية والبشرية. فمن ناحية إخبارية، تحمل هذه المأساة كل المقومات التي تجعل منها خبراً أولاً: 5 أثرياء ورجال أعمال، المغامرة التي اختاروا خوضها (رغم مختلف الدراسات التي صدرت منذ 2008، مؤكدة أن الوصول إلى حطام تايتانيك محفوف بالمخاطر)، الغموض الذي يضيف البريق إلى أي قصة صحافية، النهاية غير المحسومة. ثم لدينا تسريب الأخبار المتقطع: 40 ساعة حتى انقطاع الأوكسيجين، رصد تموجات وأصوات تحت الماء. أما إنسانياً، فاختفاء أي شخص في ظل ظروف غير واضحة مأساة تستأهل التضامن البحت.
قبل أسبوع من اختفاء الغواصة،  ليل 13-14 حزيران/ يونيو، في بحر آخر، وعلى متن قارب صيد لا غواصة، غرق 750 مهاجراً من مصر وسورية وباكستان، ولم ينقذ منهم سوى 104 حتى الآن. واحدة من أكبر المآسي التي عرفها البحر الأبيض المتوسط. مأساة موثقة، بالصورة، وبالصوت مع تكرار نداءات الاستغاثة التي تجاهلتها قوات خفر السواحل اليونانية.
ما الذي أخبرنا به الإعلام الأميركي (وقسم كبير من الإعلام الأوروبي) عن المأساة: استمعنا إلى موقف اليونان التي دافعت عن نفسها متهمة المهربين برفض إنقاذ قواتها للمركب. سلطت الضوء على المهربين المصريين التسعة، وتفاصيل متناثرة هنا وهناك، مجمّعة من وكالات الأنباء، ومكررة.
ما قصص هؤلاء الذين ابتلعهم البحر؟ ما كانت أحلامهم؟ ومن أي جحيم هربوا ليرموا أنفسهم على مركب صيد فرص النجاة منه شبه معدومة؟ لم نقرأ ولم نشاهد أياً منها، في الإعلام الغربي. 
لحظة التعاطف الأبيض الأخير مع المهاجرين كانت لحظة انتشار صورة الطفل السوري إيلان الكردي، وجسده الميت مرمياً على شاطئ تركي عام 2015. كانت الصورة تتويجاً بصرياً للمأساة السورية. بعدها تراكمت الجثث، على الشواطئ وفي أعماق البحر، وتحوّلت إلى خبر آخر، فأين اختفى التعاطف؟ عوامل كثيرة أوصلتنا إلى هنا، منها تكرار حوادث الغرق، والتطبيع البشري معها، ومنها الضغط السياسي والإعلامي لتصوير اللاجئين والمهاجرين كتهديد لا كضحايا.

في كتابها Precarious Life: The Powers of Mourning and Violence، تسأل الفيلسوفة الأميركية، جوديث باتلر: "من يعتبر إنساناً؟ حياة من تعتبر حياة؟"، وتجيب بالتفصيل عن السؤالين، لتصل إلى خلاصة أنه "لا يمكن أن يكون موت الشخص محزناً إلا إذا اعتُرِف مسبقاً بكيانه، واعتبار حياته ذات معنى وقيمة. على العكس من ذلك، في حال عدم اعتبار الحياة ذات أهمية، أي ببساطة، لم يُعترَف بها على أنها حياة على الإطلاق، فإن نهايتها لا تستحق الحداد". بينما تشير في كتابها ?Frames of War: When Is Life Grievable إلى القضية نفسها، قائلة: "الحياة التي لا يمكن الحزن عليها هي تلك التي لم تعش أبداً، ولا تعتبر حياةً بالمعنى الحقيقي".
قد يقال الكثير في السياسة، وفي الابتزاز السياسي، وفي تبادل الاتهامات. قد نتكلم عن استخدام الحكومة اليونانية 600 ألف يورو فقط من الميزانية المخصصة لها (800 مليون يورو) من قبل الاتحاد الأوروبي لعمليات الإنقاذ، بينما تستخدم باقي الأموال لتشديد وضبط الحدود... لكن كل ذلك لا يفيد وليس جديداً، فارتفاع الخطاب اليميني في الغرب، ومحاولة الإعلام بمجمله مجاراة الموجة الشعبية من رهاب الأجانب، جعلت من حيوات هؤلاء السمر الفقراء، تدفن في قعر البحر، وتنتهي هناك، من دون أي مجهود إضافي لفهم ما حصل، فلا حيواتهم تستحق الحداد، ولا أحلامهم تستحق الرثاء.

المساهمون