صورة غزة... مدينة لا توجد إلا في أوقات العدوان

04 ديسمبر 2023
في دير البلح (أشرف أبو عمرة / الأناضول)
+ الخط -

يعرف العالم غزة أكثر ما يعرفها، خلال العدوان عليها، وكأنها مدينة لا توجد ولا تعاني إلا في أوقات الحرب والقصف والقتل. تتأتى غالبية تلك المعرفة عن طريق الصور التي تعرضها وكالات الأخبار العربية منها والغربية، أو الصور التي باتت تنشرها الحسابات الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، لبعض الصحافيين المستقلين في غزة. شكّلت هذه المعرفة عن طريق الصور رأياً عالمياً متضامناً مع المدنيين في غزة، رأياً يحرّض أنظمة الدول الغربية والمؤسسات الأممية على التحرك والضغط على الاحتلال الإسرائيلي لوقف جرائمه.
على الرغم من أثر تلك الصور، وقدرتها على تحشيد الرأي العام مع غزة وضد الاحتلال، إلا أن ما تقوله هو أقل بقليل جداً مما لا تقوله، فشتّان بين ألم الغزّي الآن وألم من يشاهده، وشتّان بين صورة أم تبكي لفقدها أطفالها جراء قصف الاحتلال، وبين الألم الحقيقي الذي تكابده تلك المرأة ولا تخبره الصورة. وشتّان، أيضاً، بين صور رجل جلس على ركام منزله بعدما فقدَ عائلته كلها، وبين ما لا تقوله هذه الصورة عن ألم الفقد الذي سيطر على حياة ذلك الأب إلى الأبد.
مهما بلغت احترافية الصورة في نقل ما حلّ بالسكان والمكان في غزة، لكنها لن تتمكن من رواية حيوات أولئك السكان في غير موضع الصورة، إذ لن تروي الصورة سيرة حلم عمره عشرات السنين هزمته الطائرات. ولن تروي الصورة قصة بيتٍ بناه صاحبه بعد أن اشتعل رأسه شيباً. كما أن صورة طفل نجا من الموت بأعجوبة لن تخبرنا عما هي نوع الأعجوبة التي ستنقذ مستقبله في ظل الوضع الذي هو فيه.
من جهة ثانية، صحيح أن الصور لها دورها وثقلها في تحقيق العدالة بعض الأحيان؛ إذ تستخدم كدليل في بعض المحاكم، وبعض الصور يحصل على جوائز من وكالات إعلام دولية، لقدرتها على تجسيد لحظة إنسانية مهمة في الصراع، لكن هذا الثقل وذاك الدور يغيبان عندما تغيب الصور، كأن العلاقة عكسية بين الصور والتضامن. فكلما زادت الصور والمشاهد الدموية، زاد التضامن وكثرت حملات التعاطف، بينما كلما قلّت الصور وانخفض عدد المشاهد الدموية قلّ معها التضامن، وتدنى مستوى التأييد كما حصل مثلاً في فترة الهدنة الأخيرة. والسؤال هنا: هل عندما تختفي الصور، غداً، بعد توقف الحرب في غزة، سيختفي ذلك التضامن وتنتهي حملات المناصرة الواقعية والافتراضية لغزة؟ قد تتوقف الحرب، نعم، لكن الاحتلال لن ينتهي، وإذا لم ينتهِ الاحتلال فمعنى ذلك أن ممارساته وجرائمه لن تنتهي بحق أهل غزة، حتى لو لم نشاهد ذلك بالصور.
إن هذه العلاقة الصورية مع غزة، لا تفيد هذه المدينة التي وصفت بأنها "أكبر سجن مفتوح في العالم"، إذ يصبح المتضامن أسير الصور التي تروي جزءاً من بؤس هذه المدينة، فإن وُجِدَت تضامن وإن اختَفَت لا يتضامن.
قد تصبح أي قضية أسيرة لما ينشر عنها من صور. ففي الوقت الذي نشاهد فيه صوراً عن غزة تتعرض للإبادة، تكون غزة نفسها تتعرض للإبادة، ولا حاجة لصور أو لمزيد من الصور لإثبات ذلك. وعندما نشاهد صور أشلاء؛ فإن المجزرة تكون قد وقعت ولا حاجة للصور كدليل على أن المجزرة قد وقعت بالفعل. هذا التنبيه ضروري حتى لا تكون الصور هي مصدر الحقيقة، ليس الواقع الذي يُنقل عنه، أي أن الواقع هو أن غزة تباد، وليس صور غزة وهي تباد.
إن هذه الحالة، أشبه بأمثولة الكهف الشهيرة للفيلسوف أفلاطون، التي يعتقد فيها سجناء الكهف أن ما يشاهدونه من صور لأشخاص منعكسة على جدار الكهف قبالتهم، هو الحقيقة، إلا أنهم يشاهدون ظلال الحقيقة، أي ما يشاهدونه ظلال الأشخاص الحقيقيين وقد انعكست صورهم وهم يمرون من أمام باب الكهف. لقد كان حري بهم أن يلتفتوا ليروا الحقيقة، كما هو حري بالعالم أن يلتفت إلى غزة ليتعرف عليها جيداً، ولا يكتفي فقط بالصور التي هي ظلال الحقيقة أو جزء منها.
الحقيقة هي أن غزة مدينة محاصرة منذ أكثر 15 عاماً. يحاصرها احتلال يتحكم بسمائها وبحرها وبرها. يحجب السماء بطائراته الحربية والأرض بدبابته والبحر ببوارجه، بينهم حيوات 2,5 مليون شخص، مصيرهم بيد الاحتلال الذي يَقتل ويَسجن ويُعذّب منهم وقتما يشاء.

كما يدّمر بيوتهم وممتلكاتهم، وينسف مدارسهم ومستشفياتهم، ويقصف الكنائس والجوامع، لا يهمه الخدج ولا العجّز، لا يفرق بين مقرّ لفصيل ومهد لرضيع. إنها مأساة لا يمكن لأي صورة أن تعبّر عنها وأن تختزل معاناة من في داخل الكادر.  

المساهمون