صورة الفنان التشكيلي في السينما: رومانسي أو مختل أو منحرف

31 أكتوبر 2022
لعب يوسف وهبي دور فنان تشكيلي في فيلم "المجد الخالد" (فيسبوك)
+ الخط -

في فيلم "يارب ولد" للنجم الراحل فريد شوقي يظهر الفنان أحمد راتب في دور عيسوي، وهو "فنان بوهيمي، يعمل ما يحلو له"، أو هكذا يقدم نفسه لوالد العروس التي يريد الارتباط بها. لا تبدو هذه البوهيمية المدعاة من قبل عيسوي في غرابة تصرفاته فقط، بل في عدم اعتنائه بنظافته الشخصية ومظهره أيضاً، وهو مثار مفارقات طريفة في سياق الفيلم. فيلم "يارب ولد" من إنتاج عام 1984 للمخرج عمر عبد العزيز، وهو يقدم نموذجاً شائعاً لصورة الفنان التشكيلي، وهي صورة تحاصره غالباً في إطار يتسم بالعشوائية والخلل في السلوك والتصرفات. 

الفيلم يعد أحد أبرز الأعمال التي ترسخ لهذه الصورة النمطية للفنان التشكيلي في السينما المصرية. هذه الصورة النمطية لا تقتصر على الأفلام الحديثة فقط، فهناك مجموعة كبيرة من الأفلام التي يظهر فيها الفنان التشكيلي بصورته الغرائبية تلك، يعود بعضها إلى بدايات صناعة السينما في مصر. في ثلاثينيات القرن الماضي ظهر الفنان عبد اللطيف جمجوم في فيلم "الحب الموريستاني" مؤدياً كذلك دور فنان تشكيلي. في هذا الفيلم الذي يؤدي فيه دور البطولة الفنان بشارة واكيم، يرسم عبد اللطيف جمجوم صورة غرائبية للفنان التشكيلي كشخص مصاب بخلل نفسي. في عقد الثلاثينيات أيضاً قدم الفنان يوسف وهبي فيلمه "المجد الخالد" مؤدياً فيه دور فنان تشكيلي يتسم بالاضطراب وجنون العظمة. لا تبتعد شخصية الفنان التشكيلي في معظم الأعمال الأخرى عن دائرة الخلل النفسي أيضاً إلا نادراً، فهي شخصية تُراوح بين الاستغراق في الرومانسية الحالمة والاضطراب النفسي الذي يصل أحياناً إلى حد الجنون أو الانحراف. 

هذه الصورة التي تتسم بها شخصية الفنان التشكيلي في السينما المصرية، تبدو انعكاساً بالطبع لصورته النمطية المرتسمة في أذهان الناس. يرى الفنان والباحث المصري علاء عبد الحميد أن العلاقة بين السينما والمجتمع هي علاقة تبادلية في تأثُرها وتأثيرها، فكما تتأثر السينما بالمجتمع وثقافته، تؤثر فيه بدورها، وبدلاً من السعي إلى تغيير هذه الصور النمطية، يتعمد صناع السينما في كثير من الأحيان التأكيد عليها، ما يساهم في ترسيخها. 

في بحثه الذي قدمه لنيل درجة الماجستير، يوثق عبد الحميد لأكثر من 140 فيلماً سينمائياً مصرياً تتضمن أحداثها شخصية الفنان التشكيلي. تُغطي هذه الدراسة الفترة بين عامي 1907 و 2019. في هذه الدراسة يرى عبد الحميد أن الغالبية العظمى من هذه الأفلام التي وثقها في بحثه لا تخرج عن الصور النمطية المعتادة لصورة الفنان التشكيلي، فهو إما رومانسي أو مضطرب، وفي أحيان أخرى مجرم أو شهواني أو مختل. لا تعامل طبيعياً وتناول عادياً لظاهرة الفنان، دائماً يجب أن يكون خارجاً عن المألوف ومصاباً بلوثة ما. تربط هذه الدراسة أيضاً بين طبيعة المحتوى السينمائي والوضع الاقتصادي والسياسي القائم، إذ يرى عبد الحميد أن الأوضاع الاقتصادية والسياسية غالباً ما تُلقي بظلالها على المحتوى السينمائي. يضرب الباحث هنا مثالاً لفترة ما بعد هزيمة يونيو 1967 والتي شهدت العصر الذهبي لما يعرف بأفلام المقاولات، وهو مفهوم ظهر في تلك الفترة ليصف نوعية من الأفلام قليلة التكلفة ورديئة المحتوى. في هذه الفترة حوصر الإنتاج السينمائي المصري بين نمطين اثنين: إما الكوميديا أو الاعتماد على مشاهد الجنس، وتأثرت بالطبع صورة الفنان التشكيلي بهذا السياق. 

من بين الأفلام التي أنتجت في تلك الفترة يبرز فيلم "حمام الملاطيلي" الذي أُنتج عام 1973 وهو للمخرج صلاح أبو سيف. في هذا الفيلم يظهر الفنان يوسف شعبان بدور رؤوف، وهو رسام يتسم بالشهوانية، كما أنه مثليّ الجنس ومضطرب نفسياً، ولا همّ له سوى إرضاء شهواته. وهنا هجوم واضح على نمط حياة الفنانين، ونعتها بأوصاف أخلاقية لا تؤدّي إلا إلى تأليب المجتمع عليها. وفي فيلم "نساء الليل" للمخرج حلمي رفلة وهو إنتاج عام 1973 أيضاً يؤدي بطل الفيلم كمال الشناوي دور أحمد حمدي، وهو فنان تشكيلي متبلد المشاعر ومستغرق في أوهامه، ومشغول دائماً بالجنس والإيقاع بالنساء. 

إن التناول النمطي لشخصيات بعينها يبدو أمراً سهلاً ومستساغاً من قبل صُناع السينما، إذ لا يكترث الكثير منهم للبحث أو محاولة الاقتراب الحقيقي من عالم الفن التشكيلي. لا يكلف صناع السينما أنفسهم مثلاً باستدعاء خبير لضبط التفاصيل المتعلقة بهذه المهنة، لذا نرى الفنان التشكيلي يرسم لوحة زيتية بفرشاة ألوان مائية أو العكس، وهو يعرض أعماله في الغاليري بطريقة أشبه بعرضها في محال البقالة. إنهم يقدمون للجمهور ما يريد أن يراه، لذا يتم الاعتماد على الصورة النمطية المعتادة، وهي صورة تبدو أكثر جذباً وإثارة من وجهة نظرهم.

إذًا، الصور النمطية للفنان التشكيلي التي طرحتها السينما المصرية للفنان التشكيلي لا تخرج عن إطار الفنان البوهيمي منكوش الشعر، الذي لا يستحم، أو الفنان الفقير، أو المنقاد لشهواته أو صاحب المشاعر المتطرفة الذي يفتقد إلى التوازن في أفعاله، أو الرومانسي الحالم غير الواقعي، أو شخص تصرفاته تميل للغرابة أو منطوٍ وشكاك، وفي بعض الأحيان مجرم.
ولكن هل فعلًا خلقت السينما المصرية هذه الصور النمطية من العدم أم أنها عكست الثقافة الشعبية ووجهة نظر العامة عن الفنانين التشكيليين؟

المساهمون