في تحول دراماتيكي للأحداث، ستُطرح للبيع صحيفة ذا تليغراف البريطانية اليومية وطبعتها التي تصدر كل أحد "صنداي تليغراف" ومجلة ذا سبيكتايتور، بسبب تخلّف شركتها الأم عن تسديد ديون متوجبة عليها، وفق ما أعلن "بنك أوف سكوتلاند"، الأربعاء. وأوضح "بنك أوف سكوتلاند"، الذي تدين له المجموعة، أنه لم يكن يملك "خياراً سوى تعيين حراس قضائيين" لشركة بي يو كيه ليمتد التي تدير "تليغراف ميديا غروب" المملوكة لعائلة باركلي الثرية، "بسبب الديون المتوجبة عليها، وفي غياب أي إشارة إلى إمكان السداد".
وشدد "بنك أوف سكوتلاند" على أنّ هذه الخطوة هي "الخيار الأخير"، بسبب عدم تمكنه من التوصل إلى اتفاق مع المجموعة لسداد الديون. وأفادت وسائل إعلام بريطانية بأنّ حجم الدين يبلغ نحو مليار جنيه إسترليني (1.24 مليار دولار).
اشترى الأخوان التوأمان فريدريك وديفيد باركلي، اللذان توفيا عام 2021، منشورات مجموعة "تليغراف" عام 2004 مقابل 665 مليون جنيه إسترليني (840 مليون دولار). ويملك الشقيقان إمبراطورية شاسعة بدأت بالفنادق وتوسعت لتشمل البيع بالتجزئة ووسائل الإعلام.
ومع اقتراب انتقال ملكية هذه الصحيفة، يبدو من الضروري الكشف عن إرثها الثري، وإلقاء الضوء على التأثير العميق الذي أحدثته في تشكيل عالم التقارير الإخبارية. ولا بد من التذكير بالتحدّيات التي تواجهها وسائل الإعلام المطبوعة التقليدية في العصر الرقمي، إذ يُنظر اليوم إلى استثمار الأخوين فريدريك وديفيد باركلي، عام 2004، على أنه مبالغ فيه. وكشف التحوّل اللاحق في المشهد الإعلامي الذي أحدثته ثورة الإنترنت عن سوء التقدير المحتمل لسعر الشراء. وظهر ذلك بجلاء عام 2019، عندما أراد الأخوان معرفة قيمة ما استحوذا عليه السوقية، فقال الراغبون في الشراء إنّها لا تتجاوز 200 مليون جنيه إسترليني (نحو 251 مليون دولار). منذ ذلك الحين، حسنت "تليغراف" وضعها المالي، مع التركيز على بناء قاعدة اشتراكها إلى أكثر من 750 ألفاً والعودة إلى وضع الاستحواذ، وشرائها أخيراً "تشيلسي ماغازين كومباني". وأعلنت عن أرباح تقارب 30 مليون جنيه إسترليني (نحو 38 مليون دولار) العام الماضي.
تاريخياً، شكل إنشاء "ذا ديلي تليغراف" عام 1855 لحظة محورية في الصحافة البريطانية، تزامنت مع فترة من التحول المجتمعي العميق. ونجحت الصحيفة التي أسّسها الكولونيل آرثر بي. سلاي، في نشر الأخبار بسرعة في أنحاء البلاد كافة، ووضع معيار جديد للكفاءة الصحافية. عام 1876، أعلنت الصحيفة أنها تمتلك "أكبر تداول في العالم"، وزيّن هذا البيان الإعلانات التي كانت معروضة آنذاك على جوانب عربات الترام التي تجرّها الخيول. وتحدّث هذا الادعاء الجريء عن نجاح الصحيفة المزدهر وتأثيرها المتزايد خلال فترة التوسّع السريع في صناعة الصحف.
وكانت "ذا ديلي تليغراف" أول صحيفة يومية بريطانية تنشر لعبة الكلمات المتقاطعة عام 1925، بعد أن سبقتها الصحافة الأميركية إليها. وكانت هذه لحظة رائدة في صناعة الصحف، عكست الشعبية المتزايدة لهذا النوع من الترفيه حول العالم.
وعام 1961، بدأ فصل جديد في تاريخ "ذا ديلي تليغراف"، مع إطلاق طبعة يوم الأحد "ذا صنداي تليغراف"، وذلك لتلبية الطلب المتزايد على أخبار نهاية الأسبوع والتحليلات. واستجابت "صنداي تليغراف" لتطور المشهد الإعلامي وتغيير عادات القارئ. كما مثّل تمديد الصحيفة إلى أيام الأحد اعترافاً بأهمية توفير تجربة إخبارية شاملة تتجاوز حدود تنسيق أيام الأسبوع التقليدية.
أمّا عام 1969 فغيرت الصحيفة اسمها من "ذا ديلي تليغراف أند مورنينغ بوست" إلى "ذا ديلي تليغراف". وحدث تطورّان رئيسيان عام 1986: إدخال المطابع الجديدة التي أتاحت الطباعة بالألوان الكاملة، والانتقال إلى عملية الإنتاج "الإلكترونية بالكامل".
وعلى مرّ عقود من الزمن ومع التغيّرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الكبيرة التي شهدتها بريطانيا والعالم، أثبتت الصحيفة نفسها مصدراً موثوقاً لأحدث الأخبار، وتمكنّت من تسجيل محطّات محورية، من خلال التقاط وتوثيق أهم اللحظات في القرنين التاسع عشر والعشرين وكذلك الحادي والعشرين، بدءاً بالتقارير عن الحربين العالمية الأولى والثانية، إلى تغطية الأحداث السياسية البارزة مثل سقوط جدار برلين وانتخاب أول رئيس أميركي من أصل أفريقي للولايات المتحدة، حيث شكّلت مسار الأمم وأثّرت في الرأي العام.
وعام 1994 حقّقت إنجازاً مهماً، عندما أصبحت أول صحيفة في بريطانيا تطلق موقعاً على الإنترنت، عرف باسم "إلكترونيك تليغراف". شكّلت هذه الخطوة الرائدة دخول الصحيفة إلى العصر الرقمي، ومهّدت الطريق لاستمرار وجودها في عالم الإنترنت.
ولا يقتصر دور "ذا ديلي تليغراف" على نشر الأخبار العاجلة، بل تمتلك سجلاً غنياً في مساهماتها الكبيرة في مجال الصحافة الاستقصائية، والتزامها المستمرّ في الكشف عن الحقائق المخفية ومحاسبة السلطة. وفي الواقع لعبت من خلال تحقيقاتها المتعمّقة دوراً محورياً في كشف الفساد والنقاب عن مخالفات الشركات وتسليط الضوء على الظلم المجتمعي. وكانت الفضائح السياسية أيضاً نقطة محورية في سعيها الدؤوب إلى الحقيقة. وكشفت تحقيقات الصحيفة عن حالات فساد وإساءة استخدام السلطة من قبل شخصيات سياسية. ولعبت دوراً محورياً في الكشف عن فضيحة نفقات النواب، وهي واحدة من أهم الفضائح السياسية في التاريخ البريطاني الحديث. عام 2009، نشرت الصحيفة سلسلة من التقارير الاستقصائية التي كشفت عن انتشار إساءة استخدام البدلات المموّلة من دافعي الضرائب من قبل أعضاء البرلمان من مختلف الأحزاب السياسية.
واعترافاً بالعادات والتفضيلات المتغيّرة لقرّائها الذين يعتمدون بشكل متزايد على الأجهزة المحمولة للوصول إلى الأخبار والمعلومات أثناء التنقل، اتخذّت "ذا ديلي تليغراف" عام 2016 خطوة مهمة أخرى في تحوّلها الرقمي، من خلال إطلاق تطبيق للهواتف المحمولة والأجهزة اللوحية.
يعدّ تاريخ "ذا ديلي تليغراف" شهادة على أهميتها الدائمة وتأثيرها على المشهد الإعلامي البريطاني. منذ بداياتها المتواضعة عام 1855، نمت الصحيفة وتطوّرت لتتكيّف مع الاحتياجات والتفضيلات المتغيّرة لقرّائها. علاوة على ذلك، يجسّد نجاحها في أن تصبح الصحيفة الأولى للأخبار عالية الجودة في المملكة المتحدة، مع أكثر من 25 مليون مستخدم عام 2017، قدرتها على التواصل مع مجموعة متنوّعة من القرّاء، وتزويدهم بالمعلومات التي يبحثون عنها في عصر رقمي سريع التطوّر.
وبينما تدخل الصحيفة فصلاً جديداً من خلال طرحها للبيع، من المهم ملاحظة تعقيد هذه العملية، إذ يقع القرار في النهاية على عاتق المالكين الحاليين ومستشاريهم الذين سيقيّمون بعناية المشترين المحتملين، بناءً على عوامل مختلفة، بما في ذلك العروض المالية، والمواءمة الاستراتيجية، والالتزام بالحفاظ على القيم الصحافية لعناوينها.
ماذا عن المشترين المحتملين؟ أبدت شركة ديلي ميل أند جنرال تراست، التي يديرها جوناثان هارمسورث، سابقاً اهتمامها بالصفقة. لكن هذه الخطوة قد تواجه تدقيقاً من المنظمين بسبب الخوف من كبح المنافسة. هذه الشركة تملك صحيفة ديلي ميل.
وقد تكون شركة ريتش، المالكة لمطبوعات "ميرور" و"إكسبرس" و"ستار" ضمن الراغبين في شراء "ذا تليغراف"، وكذلك شركة نيوز يو كيه، المملوكة لقطب الإعلام روبرت مردوخ، والمالكة لـ"ذا صن" و"تايمز".
وعام 2019، أشيع أن مجموعة ميدياهاوس البلجيكية، ناشرة صحيفتي ذي إندبندنت الأيرلندية وصنداي إندبندنت، مشترٍ محتمل. يرأس الذراع الأيرلندية لشركة ميدياهاوس الرئيس التنفيذي السابق لـ"تليغراف ميديا غروب" مردوخ ماكلينان.
وضمن المشترين الأقل احتمالاً يبرز اسم شركة ناشونال وورلد التي يديرها ديفيد مونتغمري، وهو الرئيس التنفيذي السابق لناشرة مطبوعات "ميرور". نصح مونتغمري شركة رأس المال الاستثماري "3آي" بمحاولة شراء "ذا تليغراف" عام 2004، في مزاد فاز به الشقيقان فريدريك وديفيد باركلي في نهاية المطاف.
سابقاً، ذكرت تقارير إخبارية اسم مؤسس شركة أمازون، جيف بيزوس، كمشترٍ محتمل. إذ قيل إنه قدّم عرضاً لشراء "ذا ديلي تليغراف" عام 2018، وذلك بعد استحواذه على صحيفة واشنطن بوست عام 2013، مقابل 250 مليون دولار.
من المرجح أيضاً أن تجذب الصحيفة اهتمام الأثرياء وصناديق الثروة السيادية التي تسعى إلى الحصول على مكانة ونفوذ.