استمع إلى الملخص
- **قصص إنسانية خلف الكاميرا:** يتابع الوثائقي قصص ثلاثة صحافيين: صالح الناطور، يوسف الصيفي، وشروق شاهين، ويعرض تفاصيل حياتهم اليومية ومخاوفهم وآلامهم.
- **الخوف والمثابرة:** يسلط الوثائقي الضوء على الخوف والخسائر الشخصية التي يتكبدها الصحافيون، وجهودهم الشجاعة في نقل الصورة الحقيقية للعالم، وجهود التلفزيون العربي في توثيق الأحداث.
يتكرّر المشهد منذ 347 يوماً: مراسل يتوسّط الشاشة بخوذة وسترة عليها عبارة Press، ودمار يحيط به. قد نرى جثثاً أيضاً فوق الدمار أو تحته، جزءاً من جثة ربما. صوت المراسل هو نفسه، صوتٌ فزِعٌ ورتيب ومنخفض. اختفى صراخ المراسلين بعد الشهر الرابع من حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة. اعتدنا المشهد، نقول بهذه البساطة. من لا يعتاد مشهداً مكرراً منذ عام تقريباً؟ أهل غزة فقط، وعائلاتهم المغتربة خارج القطاع. أما نحن الباقون، فنتابع مشهداً واحداً طويلاً متواصلاً، لم يلتقط أنفاسه منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
هكذا نظنّ كل مرة فتحنا فيها التلفزيون أو البث المباشر على يوتيوب لمتابعة تفاصيل العدوان على غزة. لكن وثائقي "صحفيو غزة في مواجهة العدوان"، الذي بثّه التلفزيون العربي الأحد الماضي، يقول لنا غير ذلك. المراسل/ة بصوته الفزِع الرتيب، والمصوّر بيده المرتجفة، ليسا مشهداً مكرراً، حتى لو قالت الصور اليومية غير ذلك.
نتابع في الشريط الوثائقي (إنتاح التلفزيون العربي، وصوّر بين ديسمبر/ كانون الأول 2023 ومارس/آذار 2024) ثلاثة صحافيين هم مراسل "العربي" صالح الناطور، والمصوّر يوسف الصيفي، ومراسلة تلفزيون سوريا في غزة شروق شاهين.
رغم الخوذة، ورغم السترة الزرقاء، يتحدّث الثلاثة بنبرة تسمعها من أي غزيّ منذ اللحظة الأولى لهذا العدوان: صالح أب خائف على أطفاله، وعاجز عن التطبيع مع عيون الأطفال الخائفين في المستشفيات والشوارع الذين يقابلهم كل يوم في عمله، يوسف الذي يتفادى تنميق كلامه يقول: "لا أشعر بالأمان إلا عندما أكون مع عائلتي، هذه هي لحظة الأمان الوحيدة، لأننا لو متنا، فسنموت جميعاً مع بعض". شروق المبتسمة في أغلب أجزاء الوثائقي "أحب غزة، أحب أهلها" تكرّر العبارة أكثر من مرة.
هم غزيون أولاً، هوية غالباً ما ننساها ونحن نتابعهم أمام الشاشة. نتخيلهم صحافيين فقط، محصنين ضد الموت، رغم سقوط أكثر من 173 شهيداً من العاملين في القطاع الإعلامي. لكن خيالات المشاهد حول أمان الصحافيين ينسفها الوثائقي تماماً. إذ يخيّم الموت على كل دقيقة من الشريط (24 دقيقة): "حتى لو متت يكون مكتوب Press، حتى لو متت يكون معروف إنه أنا صحافي، متت بمهنتي"، يقول يوسف الصيفي وهو ينظر إلى الكاميرا.
منذ بداية العدوان على غزة، احتلت ظروف عمل الصحافيين حيزاً كبيراً من تقارير المنظمات الدولية: أعداد الشهداء، وأرقام الاعتداءات، وعدد الصحافيين الأسرى، وبيانات استنكار لهذا الاستهداف أو ذاك. كل ذلك يختفي في الوثائقي، نحن أمام ثلاث قصص لثلاثة صحافيين فلسطينيين، بتفاصيلها الصغيرة التي تسقط من التقارير الدولية. شوق أب لأطفاله ثم اللقاء داخل خيمة على ضوء خافت جداً، قلق ابن على تأمين احتياجات والديه الكبيرين في السن في ظل غيابه عن البيت، شرود صحافية في شاشة هاتفها بانتظار أن ترد والدتها على اتصالها.
ثمّ يأتي الخوف الذي يلاحق هؤلاء في كل دقيقة من عملهم منذ 347 يوماً. الخوف من الموت، والخوف من الفقد. تقول شروق شاهين في ما يبدو أقرب إلى تعويذة: "لم أعد أكتب على مواقع التواصل الاجتماعي، أخاف أن أكتب ثمّ بعد يوم أو يومين أو ساعة أقتل، ثمّ يُقال (هذا آخر ما كتبته)"، تتكلم بينما نتابع على الشاشة المنشور الأخير لشهداء صحافيين من علا عطا الله إلى رشيد السراج وحمزة الدحدوح. كلهم صحافيون قتلهم الاحتلال، "خسرتهم، خسرت كتير صحافيين قراب، وفي ضرر نفسي كبير: منتصر الصواف حدا كتير قريب عليّ، سامر أبو دقة حدا كتير قريب عليّ، رشدي السراج بيته قبال بيتي"، يراكم الصحافيون خسائرهم الشخصية، ومع ذلك يكملون عملهم "لما أرجع أفكر إذا بدي اختار مهنة تانية شو تكون؟ حرجع أشتغل نفس المهنة، الصحافة"، يقول صالح الناطور. تدور الدائرة وتعود إلى نقطة بدايتها. هم صحافيون في هذه الحرب، وهذا ليس مجرد توصيف وظيفي، إذ يعلمون أن ما يقومون به أبعد من مجرّد مهنة، هو خيارهم بصفتهم غزيّين لنقل الصورة التي تحاصرها إسرائيل، وتحاول دفنها بقتل أصحابها.
"صحفيو غزة في مواجهة العدوان" واحد من الوثائقيات التي أنتجها التلفزيون العربي عن حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة، ويتجاوز عددها خمسة عشر، بينها على الأقل وثائقيان سيعرضان في السابع من أكتوبر 2024، الأول عن يوم السابع من أكتوبر 2023 وعملية طوفان الأقصى بتفاصيله، منذ اللحظة الأولى. أما الثاني فهو عن ثلاثة أطفال غزيين تتبعت القناة حياتهم منذ بدء العدوان حتى الذكرى الأولى له.