صباح زيداني: الفن لا ينتظر الجمهور

05 مارس 2021
شاركت في ورشات دولية تجمع بين الشعر والموسيقى والطرب (فيسبوك)
+ الخط -

للمُطربة المغربيّة صباح زيداني مكانة مُهمّة داخل التجارب الجديدة، التي اكتسحت المشهد الغنائي المغربي في الآونة الأخيرة. برز اسمها داخل المغرب، انطلاقاً من احتكاكها العميق مع تجارب غنائية عربية مُستقلّة تعمل بهدوء، من دون أن تُحدث أيّ لغو يهدف إلى لفت الانتباه إلى تجربتها، فهي حريصة دوماً على تقديم أغانٍ تستند في طرائق تشكّلها إلى تراث فني مغربي، وتستعيد بعضاً من عوالمه الجمالية عن طريق جماليّات الأداء وقوّة الصوت.

من ثمّ، فإنّ اختيار الأغنية لدى صباح زيداني معطى روحاني يتفاعل فيه الصوت والجسد ويكسران معاً تقريرية العقل وسُلطته القاهرة في نفيّ اللذة الجمالية، وما يرتبط بها من فنّ وتعبير عن مآزق الجسد الوجودية. حينها، يُصبح فعل الغناء وسيلتنا الوحيدة لتطهير الروح من شروخها وتصدّعاتها تجاه واقع منكوب. بمُناسبة إطلاق أغنيتها "سنة جديدة"، كانت لـ "العربي الجديد" هذه المقابلة الخاصّة مع صباح زيداني.

صباح زيداني، أنت من الوجوه الغنائية الجديدة، التي برزت على الساحة الغنائية المغربيّة في السنوات الأخيرة. أولاً، كيف تأتى لك هذا الاهتمام بالغناء وعوالمه الروحية؟

لا يتجزأ ولعي بالموسيقى والغناء عن روحي وكياني، وذلك عائد إلى نشأتي في محيط يتنفس عبق الفن الأصيل. لكن، كان من اللازم صقل موهبتي عبر الدراسة، حيث التحقت بالمعهد الموسيقي في مراكش، وخضت تجارب فنية متنوعة من خلال انخراطي في فرق موسيقية، كجمعية موسيقى الأطلسي وأصدقاء الموشحات... وشاركت في ورشات دولية تجمع بين الشعر والموسيقى والطرب، هذا فضلاً عن المشاركة في مهرجانات وطنية ودولية كالمهرجان الربيعي للأغنية المغربية، ومهرجان السماع والإنشاد الدولي بالقاهرة، ومهرجان الغناء والمسرح الأوبرالي في سان سيري الفرنسية، وغيرها. وبعد ذلك، أسست فرقة "جسور" للموسيقى العربية والتراث المغربي. وفي إطار التلاقح الفني والثقافي بين المغرب وبلدان أخرى أوروبية، قمت بجولات فنية مع فرقة Olla Vogala الفلامانية البلجيكية، وفرقة "أنانيا" للرقص المعاصر المغربيّة.

من أهم مشاريعك الغنائية الجديدة، هي تلك مع مؤسّسة "بيت الشعر" في المغرب من خلال الاشتغال على جملة من القصائد وتحويلها إلى أغانٍ، وهي تجربة تكاد لا تخلو من بعض المطبّات، بسبب غياب ما يسمى عادة بالقصيدة الغنائية داخل المغرب اليوم. في نظرك، ما الآفاق التي يُمكن أن يفتحها الشعر الغناء؟

أولاً، بدأت علاقتي بالشعر منذ مرحلة الدراسة، إذ اكتشفت القصائد الشعرية المكتوبة باللغة العربية والفرنسية، والتي زاد حبي لها عن طريق الغناء، فأحببت إديت بياف وشارل أزنافور، وشغفت بأم كلثوم وأحمد البيضاوي ومحمد الغرباوي ومحمد الحياني... والمقطوعات الشعرية المغربية التي أنجزها بعض رواد الشعر الغنائي بالمغرب، من أمثال عبد الرفيع الجوهري وعلي الحداني وأحمد الطيب لعلج. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الشعراء المغاربة تفوقوا في نظم الشعر بالدارجة المغربية (قصيدة فنّ الملحون مثلاً) فضلاً عن اللهجات الأمازيغية والحسانية.

ثانياً، سبق لي الاشتغال على قصائد لشعراء معاصرين كأغنية "كن لي قليلاً" لـ بوجمعة العوفي، والتي لحنها الفنان خالد بداوي، وقصيدة "انس ما شئت" لـ عبد الهادي السعيد، كما كانت لي قبل ذلك تجارب وورشات ارتجالية جمعتني مع شعراء من إيطاليا وفرنسا ومع الشاعر عبد الله زريقة من المغرب التي وظفنا فيها تقنيات المزج بين الصوت والإلقاء والموسيقى (مع أحد الموسيقيين اليابانيين)، وهي التجربة التي استفدت منها كثيراً لأن التعبيرات الفنية تجاوزت عوائق اللغة الشعر، لا سيما أن لغات النظم كانت بلغات مختلفة (إيطالية فرنسية روسية وعربية). أما في ما يخص تجربتي مع مؤسسة "بيت الشعر"؛ فأعتبرها تجربة مميزة وغنية كونها تربط الشعر المغربي بالغناء بهدف استعادة القصيدة المغناة بكل ثقلها ورفعتها؛ لأن الغاية المشتركة بيننا هي ترويج الشعر المغربي على حوامل غير تقليدية، مثل الغناء قصد السمو بالذوق العام والرقي من سقف الاشتغال المشترك بين مختلف التخصصات الإبداعية، لا سيما ونحن نواجه جميعاً موجة كبيرة من الانحطاط لم يعد خافياً في واقعنا الفني.

هل يستطيع هذا الأخير أن ينقذ الأغنية المغربيّة من الاستسهال الفني والانحطاط الإبداعي، الذي بات يطبع الساحة الغنائية اليومية؟

من المعروف أن الشعر إبداع رفيع، وهذا لا يمكن إلا أن يضيف للأغنية ويرفع من قيمتها، لكن تلقي مثل هذا النوع من الإبداع يجد صعوبات وعوائق كثيرة لأن ما يروج يجعله على الهامش، فمجرد إطلالة بسيطة على الإنتاجات الغنائية الرائجة في القنوات العربية المتخصصة تجعلنا نستنتج بأننا نسير عكس التيار لأننا نحتاج إلى مستمعين يتوفرون على حد أدنى من المعرفة الفنية، وهذا ما يقف أمام انتشار مثل هذه الإبداعات التي تشتغل داخل الفن متحدية ضعف التكوين الفني لدى الجمهور. لكنني أومن بأن الفن لا ينتظر جاهزية الجمهور، بل يقترح عليه، ولو عبر قنوات ضيقة. حين أطلع على مستوى القراءة في العالم العربي، وعلى مستوى اقتناء الدواوين الشعرية فيه، فأنا أزداد اقتناعاً بأننا في أمس الحاجة إلى دعم الإبداع الجاد في مجتمعاتنا، خاصة أنني اطلعت على تجارب مجتمعات أخرى آمنت بأن قضايا الثقافة والإبداع مصيرية في التنمية بكافة مستوياتها.

صدرت لك قبل أسابيع أغنية بعنوان "سنة جديدة" وهي أغنية تعمل ضمنياً على زرع الأمل والحب في نفوس الناس، بسبب المراحل العصيبة، التي شهدها العالم. كيف تستطيع الأغنية إلى هذا الحدّ أن تُطهّر الروح من رتابة هذا الواقع ومآزقه الوجودية؟

تندرج أغنية "سنة جديدة" في إطار اشتغالي المتأني على بناء مشروعي الفني ضمن رؤية تهدف إلى المزاوجة بين التجديد الفني والمحافظة على الأصالة، وذلك ما تعكسه كل اختياراتي الغنائية. فقد اتسم القالب الفني لتلك الأغنية بلمسة تعبيرية تمزج بين الطابع الروحاني والرومانسي، وهي دعوة مفتوحة لبث روح الأمل والتفاؤل وإعلاء قيم الحب والتآزر بين الناس في ظل مواجهتهم الظروف العصيبة التي تعيشها الإنسانية، إنها ثمرة تعاون فني بيني وبين نخبة من الفنانين السوريين حيث كتبها الدكتور إياد قحوش ولحنها المبدع ميشيل شلهوب ووزعها المحترف بسام أيوب. وتجدر الإشارة إلى أنها كانت مسبوقة بأعمال أخرى كتتويج لانفتاحي على فنانين عرب من سورية ولبنان والعراق ومصر، ومد جسور التواصل عبر الفن في ما بين المشرق والمغرب.

كيف جرى تعاونك مع العديد من الفنانين العرب، ولماذا بالضبط الرهان على هذا البُعد العربي في تجربتك الغنائية؟

عرف المشهد الفني في السنوات الأخيرة تردياً وانحطاطاً ظاهراً شمل الأغنية المغربية والعربية على حد سواء، فضلاً عن ظهور أشكال وأنواع غنائية مختلفة تولي اهتماماً أكبر للشكل والصورة أكثر من المضمون، مما أثّر سلباً على الذوق العام، وهنا نشير إلى الدور الذي يقوم به الإعلام السمعي البصري والقنوات الفضائية في نشر هذه الرداءة وإفساد ذائقة المستمع، كما أن المؤسسات المنظمة المهرجانات واللقاءات والسهرات الفنية تركز على استقطاب أكبر شريحة من المتابعين معتمدة على الفنان الذي يتوفر على أعلى نسبة متابعة على مواقع التواصل، وهذا معيار غير سليم. لذلك، فالفنان صاحب الأفكار والمواقف الجادة والرؤية الفنية الهادفة يجد ضالته في التعامل مع فنانين مستقلين أو جهات عربية توفر له الرعاية وتضمن له تنفيذ مشاريعه الفنية.

المُلاحظ في تجربتك هو الاقتصار على أغانٍ، رغم ما يحبل به صوتك من خامات فنية هائلة وقدرة على تحقيق تناغم داخلي مع الآلات الموسيقية. ما السبب في غياب ألبومات غنائية كاملة، عوض أغانٍ منفردة رغم جمالياتها؟

في ظل غياب مؤسسات خاصة أو جهات مستثمرة في المجال الفني يواجه الفنان بمفرده أعباء وتكاليف إنتاج أعماله المكلفة جداً من حيث الألحان والأشعار والأستوديو والموسيقيون، كما أن مرحلة تسويق العمل لها دور أساسي في نجاح الفنان وتحقيق انتشاره على أوسع نطاق، الأمر الذي يصعب معه إنتاج ألبوم كامل. لهذا، وأمام هذا العائق المادي، يبقى البديل هو استغلال التطور التكنولوجي ومنصات الإنترنت كفضاء لترويج وتسويق المنتج الفني المغاير الذي يساهم في انتشار عادل وتصاعدي للفنان عبر أقطار أخرى، ومنحه فرص المشاركة في لقاءات ومهرجانات كبرى.

في السنوات الأخيرة، برز كثير من التجارب الغنائية المغربيّة، تُراهن على أغان منفردة، في غياب كليّ لمفهوم الفيديو كليب. صباح زيداني، لماذا هذا الابتعاد عن جماليّات الفيديوكليبات، في الوقت الذي يتزايد فيه الاهتمام مغربيّاً بسحر الصورة وفنونها؟

يحتاج الفيديو كليب إلى جهة منتجة أو إلى أغان تجلب الربح السريع لمنتجها، وهذا ما لا يتحقق في تجربتي الفنية لأن الأغاني المنتشرة، أقصد الرائجة تجارياً، والمنتشرة على وسائط التواصل الاجتماعي، لها مواصفات تجارية معروفة.. لكن هذا لا يعني أنني أرفض ذلك، ولكنني أطمح إلى الالتقاء بمنتج مغامر يقترح الانخراط في إنتاج فيديوكليبات تلائم الأغاني التي أشتغل عليها، وتقديم منتوج بصري يختلف عما تسير فيه الأغاني المصورة التي تتعامل مع المغني(ة) بشكل استعراضي فج لا ينفصل عن تقديمها كسلعة.. إضافة إلى أن إنتاج هذا النمط من الأغاني يضع المبدع تحت إكراه الزمن بحيث لا يجب أن تتعدى الأغنية أربع دقائق، فضلاً عن إعطاء الأولوية لتقنيات التصوير والماكياج على حساب المضمون.

ثمّة مفارقة عجيبة، تكمن في أنّه في الوقت الذي، يدّعي فيه المغرب اهتمامه بالموروث الغنائي/التاريخي مثل: الطرب الأندلسي والغرناطي وفنّ الملحون، تقتصر المهرجانات المغربيّة على كل نماذج وأشكال الابتذال الفني، ما يجعل الكثير من الفنانين يشتغلون مع تجارب عربيّة وغربية. كيف تنظرين إلى هذه المفارقة، خاصّة أنّك مطربة، تُمثّل هذا النوع من الغناء الرفيع والمُلتزم؟

من المفروض، وكما عودتنا أدبيات المهرجانات العريقة، أن تكون المهرجانات حاضنة لهذا النوع من الأغنية لأنها كانت تبادر إلى البحث عن الجديد والمتميّز، وكانت لها سياسة تعتمد على الاكتشاف ودعم المختلف، ولكن غالبيتها صارت اليوم - ويا للأسف! - خاضعة لأهواء ما يقترحه المنتجون أو مديرو الأعمال أو المتخصصون في الدعاية والتسويق الذين يدافعون عن ملفات "نجومهم" عن طريق إحصائيات عدد المشاهدين في القنوات الإلكترونية وارتفاع اللايكات والتوجهات الإشهارية الموجهة والمدفوعة الأجر.. صراحة، لا أتوفر على مدير أعمال، فكل ما أقوم به جاء بفضل مجهوداتي الذاتية والتفاف ثلة من الأصدقاء الذي تجمعني بهم نفس الرؤى والتوجهات.

المساهمون