على مدى العقود الأربعة الماضية، شهدت أفغانستان حرباً ضروساً استهدفت الشرائح والأطياف كافة. دمّرت الحرب الكثير من القطاعات الحيويّة في الاقتصاد، لكن بعد عام 2001، تشكّلت الحكومة الديمقراطية، وجاءت أموال ضخمة إلى الاقتصاد الأفغاني، وتحسّنت حالة بعض القطاعات. من بين القطاعات التي شهدت نقلة نوعيَّة كانت صالونات التجميل. في العاصمة كابول وحدها، فتحَت مئات الصالونات الخاصّة بتجميل العرائس، واستثمر الأفغان بمبالغ مالية ضخمة في هذا القطاع. مع قدوم حركة طالبان مرّة أخرى، وسيطرتها على السلطة في منتصف شهر أغسطس/آب الماضي، تأثّر هذا القطاع بشكل كبير، بل هو على وشك الانهيار، بسبب الركود الاقتصادي والوضع المعيشي المزري، خصوصاً بعد تجميد الأصول الاقتصادية الأفغانية. بات الإقبال على صالونات التجميل شبه معدوم، وفرضت "طالبان" قيوداً جديدة.
تمنا حيدري هي صاحبة صالون تجميل، تقول لـ "العربي الجديد" إنّ أعمالها تدهورت إلى أبعد الحدود، إذْ لا إقبال على الصالونات بسبب الوضع المعيشي. الناس فقدوا رواتبهم وتراجعت الحالة المعيشية في البلاد، وبات الناس منشغلين فقط بتأمين لقمة عيشهم، أمّا التجميل، فصار شيئًا إضافيًا في الوقت الراهن، ورفاهية تتناقض مع الوضع المعيشي الراكد.
تشير حيدري إلى أنّ النساء كنّ يتقاطرن إلى صالونها قبل زمن "طالبان" وكانت تكسب أرباحاً كبيرة. أكثر من 12 موظّفة كنّ يعملْن في الصالون مع راتبٍ جيّد. لكن بسبب التغيّرات الأخيرة، توقّف عملها وأقالت 9 منهنّ وأبقت فقط على 3. تتابع حيدري أنّ استمرار الوضع على ما هو عليه، سيجبرها على إغلاق المحل وإقالة ما تبقى من الموظّفات. توضح حيدري أنّ قلقها ليس فقط من أجل عملها، بل من أجل العاملات معها في الصالون أيضاً، إذْ إنّ العمل في الصالون هو مصدر كسب الرزق الوحيد لديهنّ. وأشارت حيدري إلى أنّ قرار إقالة تسع موظّفات كان صعباً جداً، لكن لم يكن هنالك مفرّ منه. وتلفت إلى أنّها تضع آمالاً على العام الجديد لعلّ الأمور تتحسّن، وإلّا فإنّها ستغلق الصالون لأنّها تدفع الإيجار بالدولار، ومن الصعب جداً تحمّل التكاليف من دون مدخول مالي كافٍ.
وحول قيود "طالبان" تشير حيدري إلى أنّ عناصر من الحركة جاءوا مراراً إلى الصالون. في البداية طلبوا منها إزالة كلّ الصور التي تحتوي على اللون الأبيض، لأنّ اللون الأبيض مع صور النساء هو إهانة لعلم طالبان الأبيض كما يدّعي عناصر الحركة! ومن بعدها إزالة صور كلّ النساء. توافق حيدري على تنفيذ أوامر طالبان، لكنّها تؤكد أنّها أوامر من أجل المضايقة وفرض الهيمنة فقط لا غير.
زكية نوري هي من العاملات الباقيات في الصالون.
أوامر حركة طالبان من أجل المضايقة وفرض الهيمنة فقط لا غير
تتقاضى نوري راتباً قدره عشرة آلاف أفغانية (100 دولار)، وهي خائفة للغاية من فقدان عملها، خصوصاً أنّ إقبال النساء تراجع كثيراً، إذ إنّ فقدان الزبونات يعني فقدانها عملها. تقول لـ "العربي الجديد: "أنا خريجة جامعية وتعلمت مهنة التجميل بصعوبة فائقة. لكن الآن بعد سيطرة طالبان على السلطة، صار التجميل شيئاً مهمشاً، وتراجع إقبال النساء على الصالونات".
وتسرد عوامل عدة برأيها أدت إلى تدهور صالونات التجميل، منها الوضع المعيشي العام وانهيار العملة، وازدياد معدلات البطالة بعد هيمنة حكومة "طالبان" وفقدان كثير من النساء ممن كنّ يعملن في الحكومة السابقة لوظائفهن (30 في المائة من موظّفي الحكومة السابقة كانوا نساء). هذه الشريحة باتت من دون عمل وخفّت طاقتها المالية، ولم يعدن يأتين إلى صالونات التجميل. علاوة على ذلك، تراجع تنظيم الأعراس بسبب القيود التي وضعتها حركة طالبان.
مباركة الأحمدي، كانت تعمل كذلك في الصالون، وأقيلت من العمل رغم أنّها الابنة الوحيدة في أسرتها التي تعمل وتتقاضى راتباً. عمل الشابة كان يسدّ بعض احتياجات عائلتها، إذْ كانت تشتري بعض الزيت والأرز والدقيق "لكن بعد قدوم شبح طالبان، تلاشى كلّ شيء. وأنا الآن جالسة في المنزل مع أشقائي الصغار".
تخرج الأحمدي في صباح كلّ يوم وتبحث عن عمل، ليس فقط لأنّها تريد أن تواصل العمل في المهنة التي تعلمتها خلال سنوات؛ بل لأنّها إذا جلست في المنزل ستنسى المهارات التي اكتسبتها، كما تريد أن تكسب لقمة العيش من خلالها، لكنّها تعود في المساء صفر اليدين، إذْ إنّ كلّ الصالونات التي تحاول العمل فيها، تقول لها إنّ الوضع سيئ، ولا عمل حالياً.
تركت الشابة الدراسة بعد إكمال الثانوية بسبب الوضع المعيشي الهش لأسرتها، وتوجّهت إلى مهنة التجميل. كانت ترغب في إكمال دراستها وأن تصبح طبيبة، لكنّ الوضع المعيشي السيئ لأسرتها هو ما دفعها إلى الاتجاه لمهنة التجميل من أجل كسب العيش، ولاحقاً أحبّت هذه المهنة، بل تريد مواصلتها في المستقبل.
ومن الصالونات التي تأثرت أيضا صالون "زمرد" الواقع أيضاً في منطقة شهر نو، إذ تقول صاحبته أنّ لديها 19 عاملة كنْ يعملْن من الصباح حتى المساء. وكان للصالون نشاط كبير خصوصاً في أيام الإجازة الأسبوعية. لكن بعد مجيء "طالبان" تعثر كلّ شيء، لم يبقَ في الصالون إلّا خمس عاملات، وهن أيضاً جالسات طوال النهار، إذ لا عمل لهن غالباً.