من على مقعد لا أفارقه منذ أشهر، في مدينة لا أزال أنكر موتها وأُمنع من التجول فيها، أشاهد فران ليبويتز تجوب مدينتها نيويورك. أسمعها تتحدث عن كل شيء وتشتكي من أي شيء، طوال 209 دقائق متواصلة، من دون أن أضجر للحظة.
لا أتمتع بالاستماع إلى الكاتبة والناقدة الساخرة فقط لبراعتها في ما تفعله، أي الكلام، بل أيضاً لأنها لا تذكر وباء "كوفيد-19" مرة. إذ صور المخرج مارتن سكورسيزي السلسلة الوثائقية "لنفترض أنها مدينة" Pretend It's a City التي تعرض الآن على منصة "نتفليكس" نهاية عام 2019. وركز في الحلقات الـ7 على صديقته ليبويتز، مطلاً في لقطات غارقاً في الضحك أمام من ارتبط اسمها منذ سنوات بـ"التفاحة الكبيرة".
تتحدث ليبويتز عن شبابها في نيويورك التي قدمت إليها بعدما طردت من المدرسة الثانوية، لتأثيرها السيئ في أترابها، كـ"تنكرها بزي فيديل كاسترو في إحدى حفلات هالوين". تتطرق إلى عملها لدى آندي وارهول، وتجربتها كسائقة سيارة أجرة، وعشقها التدخين، وحظها السيئ في العقارات، وكتبها الـ11 ألف التي تستأجر شققها من أجلها، وطفولتها، وعن "من يعتقدون أنهم يملكون ما يكفي، ومن يملكون المال"، والرياضات التي تكرهها، وأنفاق نيويورك ومواصلاتها، وقرارات العمدة السابق مايك بلومبيرغ الذي لا تطيقه، والمارّة الذين لا يبعدون وجوههم عن أجهزتهم التي لا تقتني هي أياً منها، وسائحي "تايمز سكوير"، وتفاصيل كثيرة عدة لا يمل منها.
تتضمن الحلقات أيضاً مقتطفات من مقابلات أجرتها ليبويتز سابقاً مع مشاهير بينهم أليك بالدوين وسبايك لي. "لنفترض أنها مدينة" ثاني مشروع يجمع سكورسيزي بليبويتز، بعدما تعاونا في وثائقي "بابليك سبيكينغ" Public Speaking لشبكة "إتش بي أو"، عام 2010.
يتزامن عرض السلسلة الوثائقية على "نتفليكس" مع سلسلة لافتة عنوانها How To with John Wilson أعدتها "إتش بي أو" مع المخرج جون ويلسون (34 عاماً) الذي يصغر ليبويتز بـ36 عاماً. ما يجمعهما؟ الخفة والسخرية اللامعة وحب مدينة تتغير كل لحظة، رغم الشكوى من كل ما فيها.
على عكس "لنفترض أنها مدينة" الذي تركز فيه كاميرا سكورسيزي على ليبويتز، لا يظهر جون ويلسون في سلسلته التي حققت نجاحاً شجّع "إتش بي أو" على تبني جزء ثانٍ منها.
"النيويوركي القلق" ويلسون هو الراوي والمصوّر والمنتج الذي يحدد موضوعاً لكل حلقة من حلقاته الـ6، ككيفية فتح أحاديث صغيرة، وتعليق السقالات التي تميز معالم المدينة، وتنشيط الذاكرة، وتغطية الأثاث لحمايته من حيوان أليف، وحساب فاتورة بعد عشاء مع الأصدقاء... أحاديث وتفاعلات عشوائية قد توصل ويلسون إلى تلبية دعوة غريب ومراقبته في أثناء محاولته الإيقاع بمفترس أطفال على شبكة الإنترنت.
العملان رسالة حب للمدينة، وتذكير بكل ما لا يمكننا الحصول عليه الآن: الثرثرة مع الأصدقاء، والأحاديث السطحية مع الغرباء، والشكوى من كل ما في مدننا التي أنهكها الوباء... غير أن مدننا ــ إلى الآن ــ لا سكورسيزي فيها ولا ليبويتز ولا ويلسون. وهنا، لا نفكر في من سيصوّر رسالة حب إليها، لكن على الأقل من سيوثق خرابها وموتها هذا؟