عندما بدأت قرصنة الأسطوانات المسموعة في النصف الثاني من التسعينيات، وجدت شركات الإنتاج الكبرى، وعلى رأسها "روتانا"، نفسها أمام مأزق حقيقي. إذ رغم القوانين الحاسمة في العالم العربي بتجريم القرصنة، انتشرت الأسطوانات في الشوارع وحتى المطاعم والملاهي الليلية، مسببة خسائر مالية ضخمة للشركات.
اليوم تختلف الصورة، لكن النتيجة تبقى واحدة. إذ إن تقاسم الوظائف بين شركات الإنتاج وبين منصات بث الموسيقى باتت مهمة شاقة ومعقدة. فبينما حاولت على سبيل المثال "روتانا" بث أغنية إليسا الأخيرة "العقد"، عادت وحذفتها، بسبب اعتراض شركة "وتري"، التي سمحت لمنصة "أنغامي"، في المقابل، ببث العمل.
كذلك، فإن الفنان الأردني المعتزل أدهم النابلسي طلب من الشركة التي أنتجت أعماله، حذفها جميعاً بعد "توبته"، وحصر أعماله في الأناشيد الدينية. إلا أن مختلف أغانيه لا تزال موزعة هنا وهناك على منصات مختلفة، بعيدا عن شركة الإنتاج.
فهل بدأت فعليا الحرب الخفية بين شركات الإنتاج ومنصات بث الموسيقى، حول حقوق وعائدات بث الأغاني؟
قد يبدو الجواب على هذا السؤال مبهما في الوقت الحالي، لكن الأكيد أن المستفيد الأول من شرارة هذه المعركة هو منصة "أنغامي" التي غالباً ما تخرج فائزة من أغلب الخلافات (الدليل الأخير بثّها لأغنية إليسا).
تعمل "أنغامي" وفق مبدأ خاص، وتخضع لقوانين عالمية تشبه تلك التي تخضع لها منصات مثل "سبوتيفاي"، و"ديزر". وللمنصة الأخيرة، وهي فرنسية المقرّ والإدارة، قصة بدورها في العالم العربي. إذ عقدت معها "روتانا" قبل سنوات اتفاقا حصريا واحتكاريا، يتيح لها حصرا بثّ أغاني الفنانين المتعاقدين مع الشركة السعودية. قبل 3 سنوات فسخ الطرفان العقد، لكن المنصة الفرنسية جنت الملايين من هذا الحق الحصري الذي حصلت عليه. لم تنجح الشركة في الانتشار عربيا بالشكل المتوقع، فعادت "روتانا" إلى أحضان "أنغامي"، التي تبقى حتى اليوم منصة الاستماع الأكثر شعبية في العالم العربي، لأسباب كثيرة، بينها سهولة استخدام تطبيقها، والمكتبة الموسيقية الضخمة التي تتيحها للمستخدمين، حتى هؤلاء الذين لا يدفعون اشتراكاً شهرياً.
بموازاة سيطرة "أنغامي" على خارطة منصات البث العربية، فإن "روتانا" تبقى شركة الإنتاج الأقوى على الساحة العربية. ورغم النكسات التي أصابتها، لا تزال قادرة على احتكار أبرز الأصوات في العالم العربي. لكن يبدو أن هذه القوة مهددة. فإلى جانب حذف أغنية "العقد" عن حساباتها، حذفت أغاني أخرى لإليسا، بينها أعمال قديمة، بسبب ارتباط الفنانة اللبنانية بعقد توزيع مع "وتري"، وهو ما يهدد أرشيف إليسا نفسها، كما يهدد الشركة وأرباحها. ومن المتوقع أن يطاول هذا الحذف أشهر أغاني إليسا، مثل أغاني ألبوم "عايشالك" الذي أنتجه الراحل جان صليبا، وهو ما قد ينسحب تباعاً على فنانين آخرين، تداخلت عقود الإنتاج التي وقّعوها، لتضيع أعمالهم بين حقوق التوزيع وحقوق الإنتاج وحقوق البث.
وحتى الساعة، لا تزال أزمة إليسا تربك سوق الإنتاج العربي، وكذلك المنصات ومواقع التواصل. وهو ما جعل مغنين ومغنيات عربا، يعيدون النظر في طبيعة العقود التي وقعوها أو سيوقعونها مع شركات الإنتاج والتوزيع للحفاظ على حقوقهم الإنتاجية وكسب العائدات في السنوات المقبلة. وهو ما يؤكد أن الحرب القادمة ستكون على المحتوى الغنائي العربي ومن يحق له النشر ومن لا يحق، في ظل تغير قواعد اللعبة، ووجود فضاءات ومنصات مفتوحة، تعتمد على نشر كل شيء من دون علم شركات الإنتاج أو التوزيع.