في طهران، عام 2007، تسبّبت ريحانة جباري (19 عاماً) في وفاة رجل حاول اغتصابها، عندما دافعت عن نفسها، وطعنته بسكين، فقُبض عليها، وصدر حُكمٌ بإعدامها. يتناول "7 شتاءات في طهران" (2023)، للألمانية شتيفي نيدرزول، فصول هذه الحادثة التي هزّت الرأي العام، الإيراني والعالمي، وتحوّلت إلى معركة من أجل حرية النساء وحقوقهنّ في إيران، من خلال صراع خاضته عائلة جباري، بقيادة الأم شوليه، وكيف تحوّلت دفّة المحاكمة الجنائية إلى قضية سياسية، لانتماء القتيل إلى سلك الاستخبارات الإيرانية سابقاً، والشكوك الكبرى التي حامت حول عدالة التحقيق، وإجراءات المحاكمة، وأدلّة الإدانة.
رغم أنّ جُلّ المُشاهدين يعلمون النهاية القاتمة والحزينة للقصة، بحكم الصدى الواسع الذي خلّفه خبر تنفيذ حكم الإعدام في ريحانة، في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2014 (عند بلوغها 26 عاماً)، فإنّ أحد مكامن قوّة الفيلم، بالضبط، إعادة خلق وإثارة الشكّ والترقّب، ما يدفع المُشاهد إلى أن يظلّ مُتشبثاً بطريقة ما، على منوال عائلة ريحانة، بأمل أن تنفذ الشابّة بجلدها، خاصةً مع ورود تفاصيل المنعرج الدرامي الذي يحبس الأنفاس، حين تتلقّى عرضاً ـ غير مضمون ـ من عائلة القتيل بالتراجع عن روايتها الأولى حول تعرّضها للاغتصاب لتنال عفوهم، لكنّها ترفضه، فتتحوّل معركتها من نضال شخصي، لنيل براءتها وعتق رقبتها من حبل المشنقة، إلى تضحية بالنفس من أجل حقوق النساء وحريتهنّ، فيغدو الفيلم بدوره "مانيفستو" كونيّاً لإعلاء القِيم نفسها.
رغم منسوب القسوة والإثارة الذي تنطوي عليه القصة، لا يسقط إخراج نيدرزول في أيّ لحظة في إذكاء الإثارة السهلة. صحيحٌ أنّ جانب الانحياز إلى رواية عائلة جباري، أو ما يطلق عليه الفرنسيون "عملاً A Charge"، يُثير حفيظة مُتابعين؛ لكنّه يظلّ محموداً وأقلّ تكلفة من ريبورتاج، يعرض الأحداث من خارجها، من دون أي استثمار شخصي للعواطف، يفترض تحيّزاً Parti-Pris يتحمّل العواقب. المهمّ في هذه الحالة أن يكون التحيّز صادقاً إلى جانب العدالة، ومطلباً إنسانياً أسمى: إلغاء عقوبة الإعدام من دون أيّ مناورات أو تلاعب فجّ.
التحدّي الآخر الذي رفعه الفيلم العثور على بنية سردية تكاد تحاكي مفاتيح التخييل، وإيقاع سلس نظراً إلى تعقيد القضية، والحجم الكبير من المواد المتوفّرة لدى نيدرزول: مواد إعلامية، خواطر ريحانة المُهرّبة من السجن، شهادات العائلة ونزيلات سابقات معها، صُور وفيديوهات مُلتقطة خفية لمسار النضال في إيران، أرشيف فيديو يظهر لحظات من حياة ريحانة قبل حلول الحادثة المفجعة. إضافة إلى مقاطع بالغة التأثير، بصدقها وقوّة المشاعر المنبعثة منها، بعد خلق الزنزانة التي كانت تقبع فيها ريحانة في سجن "شهر راي"، مع قراءة خواطرها بصوت الممثلة زار أمير إبراهيمي.
عرض "7 شتاءات في طهران" في الدورة الـ73 (16 ـ 26 فبراير/شباط 2023) لـ"مهرجان برلين السينمائي"، وتُوّج بجائزتي "السلم" وCompass-Perspektive؛ وفي الدورة الـ16 (13 ـ 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2023) لـ"المهرجان الدولي لفيلم المرأة بسلا" (المغرب)، ففاز بالجائزة الكبرى للمسابقة الرسمية للأفلام الوثائقية.
(*) قلتِ إنّ اتخاذ قرار إنجاز الفيلم كان صعباً. ما النقطة التي جعلتك تحسمين قرارك، خاصة في ما يتعلّق بحقيقة أنّك لا تعرفين الكثير عن الثقافة الإيرانية؟
أعتقد أنّ ثيمة العنف الجنسي جذبتني. هذا ليس موضوعاً إيرانياً. في ألمانيا والمغرب مثلاً، تعاني النساء عنفاً جنسياً. هذه علاقتي الشخصية بقصّة ريحانة، في البداية. كان لدي شريك حياة إيراني فترة طويلة، ولأنّه مخرج أفلام سياسية، جمعتني به نقاشات طويلة عن إيران والسياسة. لذا، بطريقة أو بأخرى، كنت قريبة من ثيمة الفيلم.
رغم ذلك، ظللت أتساءل: "حسناً. أنا لا أتحدّث اللغة الفارسية، وهذه مسؤولية كبيرة، تحتاج إلى وقت وطاقة كثيرين، من أي موقع أخوضها، إذا لم تكن تتعلّق بثقافتي". استغرق الأمر وقتاً لاتّخاذ القرار. حتّى بعد أن قبلت إنجاز الفيلم، استغرقت وقتاً طويلاً لأتعلّم كيف يُمكنني التحدّث عنه.
أعتقد أنّه لدينا، عامة، مسؤولية جسيمة في الحديث عن الأفلام، خاصة إذا لم تكن تتعلّق بثقافتك الأصلية.
(*) كيف تمكّنت من هيكلة الفيلم، والتعامل مع تنوّع المادة المتوفّرة وغناها، خاصة مع اختيارات حاسمة، كترك اللحظة التي ترفض فيها ريحانة التراجع عن رواية تعرّضها للاغتصاب حتّى النهاية، رغم مغريات وضعها في الوسط أو البداية مثلاً؟
مُهمٌّ جداً لي، منذ البداية، صُنع فيلمٍ يستطيع جُلّ الناس متابعة قصته. كان واضحاً جداً لي أنّي لست مهمّةً للقصة كمخرجة. أنا صانعة الفيلم، لكنّي لست مُهمّة، لأنّ واجبي أن أمنح صوتي للآخرين. لذا، قرّرت استخدام البنية السردية الأكثر قاعدية في الواقع. قررت ذلك أيضاً لأنّ القصة لا تخلو أصلاً من التعقيد بالنسبة إلى الذين ليسوا على دراية بتعاليم الشريعة الإسلامية المُتّبعة في إيران.
من جهة أخرى، يعلم معظم الناس أنّ ريحانة أُعدِمَت، أي أنّهم يعرفون نهاية الفيلم مسبقاً. مُهمّ إيجاد طريقة للحفاظ على القليل من التشويق، أو بتعبير آخر، الشكّ حول ما إذا كان الحكم سيُنفَّذ أم لا. ليس لأنّي أريد التشويق لذاته، بل لأنّي حرصت على أنْ نتفاعل ونتعاطف مع شعور العائلة، لأنّ هذا ما كانوا يُخبرونه كلّ يوم، حين كانوا يأملون إلى آخر لحظة ألاّ تُعدم، رغم كلّ المؤشرات التي تقول العكس. أردت أن أجد طريقة لتمكين الجمهور من الشعور بذلك.
استغرق الأمر وقتاً طويلاً للعثور على بنية الفيلم، لأنّي كنت أتوفّر على كمية هائلة من المواد والمستندات. بلغت مدّة المونتاج الأولي (Rough cut) نحو 8 ساعات، ورغم ذلك لم يكن مُملاً، لأنّ القضية مُعقّدة للغاية. اضطررت للتخلّص من جزء كبير من المواد، لكن كان صعباً جداً العثور على هيكل وإيقاع مناسِبَين لرواية القصة.
(*) التشويق ضروري لكنّه خطر، بخاصة أخلاقياً، نظراً إلى الجانب الإنساني للقصة. كيف تمكّنت من الحفاظ على المسافة مع التشويق، حتى لا يتحوّل إلى إثارة سهلة أو تلاعب؟
أولاً، تنطوي الأفلام دائماً على قدر معيّن من التلاعب، كما تعلم. لكنّي حاولت ألاّ أسقط في ذلك. طبعاً، هناك لحظات كان يمكنني فيها دفع المشاعر بشكل أقوى ممّا فعلت، وكانت لدي مواد أعنف وأكثر جنوناً، لم أضعها في الفيلم. كنت أفكّر في مستوى العنف، وقي قدرٍ مُعيّن من تدفّق المشاعر الذي أحبّ أن أشاهده بنفسي كمتفرّجة مفترضة. هذه الطريقة التي أدركت بها أقصى قدر من العنف يمكن الاحتفاظ به في هذا النوع من المواضيع، وكيف يجب أن أمسك بزمام العاطفة.
(*) هل كان المعيار داخلياً بصفة تامّة؟
نعم. كان المعيار داخلياً. أعتقد أيضاً أنّ المادة تتحدّث عن نفسها بدرجة كبيرة. أعني أنّنا بصدد الموضوع الأكثر تطرّفاً، الذي يمكن الحصول عليه. عائلة، أو أم تتلقّى مكالمة هاتفية من ابنتها تقول فيها: "سيعدمونني بعد قليل". لا يوجد شيء يتعيّن عليك إذكاؤه أو تضخيمه. أنت تعلم أنّ كلّ إنسان يمكنه التماهي معه. على الأقلّ، هذه حالتي. يمكنني الإحساس بشكل أفضل عندما لا أشعر أنّ هناك من يريدني أن أتعاطف بأيّ ثمن. قال لي أناس كثيرون بعد مشاهدة الفيلم: "مذهل. إنّه عملٌ مفجع وقوي جداً. لم أتوقّع أن يمسّني بهذا العمق". أعتقد أنّه يؤثّر إلى هذه الدرجة، لأنّي لم أدفع الأشياء أكثر ممّا يجب.
عندما تبالغ في تضخيم الأشياء، تُغلق على الناس الباب الذي يستطيعون من خلاله الانفتاح على الموضوع. نحن البشر نحبّ أن نتواصل حول مشاعرنا، وأن يتكوّن لدينا تعاطف مع الآخرين. لكننا أيضاً لا نريد أن نشعر بالألم. لذا، عندما يكون الإحساس بالأشياء مبالغاً به، نغلق أنفسنا بشكل تامّ، ولا نتعاطف أساساً.
بهذه الطريقة تسير الأمور معي، على الأقلّ. لا أعتقد أنّي فريدة إلى حدّ أنّها لا تنطبق على الآخرين.
(*) الجانب الإعلامي للقضية مهمّ جداً. كيف تعاملت مع اختيار ما ستضعينه من مواد إعلامية في الفيلم، وتحديد المسافة معه حتى لا تغدو المعالجة أقرب إلى ريبورتاج؟
أعتقد أنّ هناك لحظات أتحدّث فيها عن معالجة وسائل الإعلام، لكنّي لم أجد مواد كثيرة مستقاة من وسائل الإعلام الإيرانية حول هذه القضية. لدي مواد صحافية كثيرة، لكنّها ليست أكثر ثراءً. بالنسبة إلى التلفزيون، وجدت مواد لا يُستهان بها، لكنّها أحياناً كثيرة تحتاج إلى وضعها في السياق. أي أنّه عليّ عرض بين 3 و5 دقائق، حتى نفهم ما يدور حوله المقطع. لذا، في لحظة معينة، تكونّ لدي شعور أنّ هذا ما أريد قوله حول القضية، وهذا جرى استقباله في أنحاء العالم تقريباً، وإيران لديها طبعاً نسخة مختلفة عنه، فقرّرت حذف مواد كثيرة.
كانت هناك نسخة لم نهتمّ بها بتاتاً في الجدل الإعلامي الدائر حول القضية، وكيف نُظِر إليها في إيران. هناك مقطع تلفزيوني حصلت عليه، اعتقدت دائماً أنّه مهمّ، لانطوائه على قدر كبير من البروباغندا الإعلامية المنتَهَجة في إيران، مع صُوَر قوية جداً، كسكين مخضّب بدماء كثيرة. لكنّي قرّرت حذف هذا في النهاية، لأنّه يتعيّن عليّ أيضاً عدم إعادة إنتاج تلك الصُور العنيفة.
(*) مُثير للاهتمام أنْ نرى كيف تتمثّلين وجهة نظر عائلة القتيل من خارج حقل الحكاية. لكنّنا نرى مقاطع حول ردود أفعالهم، كتبادل الرسائل بين شوليه، والدة ريحانة، وجلال، الأخ الأكبر لعائلة القتيل. كيف جاءتك فكرة وضع الرسائل بشكل مكتوب على الشاشة، مع خلفية الصمت؟
للأمر علاقة بحقيقة أنّي لم أتمكّن من الوصول إلى جلال سربندي، أخ القتيل. أردت حقّاً التحدّث معه، لكنّ وسيلة التواصل الوحيدة التي أتيحت لي، لأنّه رفض التحدّث معي، كانت تلك المحادثة التي جمعته بشوليه. كانت لدي تفاصيل من هذه المحادثة أكثر بكثير ممّا أوردته. بالنسبة إليّ، مُثير للاهتمام أيضاً أن أرى كيف تتطوّر علاقتهما. لا توجد مشكلة في أنّ جلال رفض التحدّث معي، لأنّ هذا حقّه. لكن، كما تعلم، يظلّ أفراد عائلته حتى نهاية حياتهم مرتبطين بعائلة ريحانة. سواء أرادوا أم لا، هم مرتبطون، ولا يمكن قطع هذا الاتصال حتّى لو قالوا "لا" له، لأنّ هذه القضية لم تغيّر عائلة ريحانة فحسب، بل حياتهم هم أيضاً.
ينبغي ألاّ ننسى أنّ شخصاً واحداً مات في بداية القضية، وهو من عائلة سربندي. حتّى لو كنت لا أريد التحدّث عن هذا الرجل، إلا أنّه توفي، ولا أحد في وسعه التغاضي عن ذلك. بالنسبة إليّ، مُثيرةٌ جداً رؤية هذا الارتباط، وتبادل الرسائل إحدى اللحظات القصيرة التي تمكّنت فيها من منحه صوتاً. هذا ليس كافياً في تصوّري. لكن، كانت هذه الطريقة الوحيدة ليفهم الناس تطوّر العلاقة والارتباط بين العائلتين.