عندما استنشق جان بابديست (بن ويشو) رائحة الفتاة التي تبيع الخوخ الأصفر، انهوس برائحتها. لحق بها. اقترب ودنا منها حد الالتصاق حتى أرعبها. عرضت عليه بعض الخوخ، لكنه بدل أن يمسك فاكهتها سرق يدها واستنشقها بكلتا رئتيه.
أرعبها تصرفه المريب ولم تعلم أنها رائحتها التي انهوس بها. هربت منه لكنه لحقها. راقبها عن بعد. سرح بخياله كمهووس عطور. حوّطها لكنه لم يستطع الحصول على أكثر من ذلك.
استمر بحثه عن عطرها طوال الفيلم "العطر: قصة قاتل" (2006). قتل الفتيات الثلاث عشرة أملاً بأن يركب من مجموع روائحهن رائحتها. لكنه قُتل وآخر ما كانت تستعيده ذاكرته الصورة الراسخة والسريعة مع بائعة الخوخ ورائحتها التي كانت مراده في رحلته الطويلة الذي لم يصل إليه أبداً.
وكما جان بابديست، جعلتنا كورونا نبحث عن شيء ينقصنا لكننا لا ندركه. لم نصل للهوس الذي وصل إليه لكنه ذلك الشعور الغامض في النقصان، أو كأننا نبحث عن شيء وسره حاسة الشم وما تثيره فينا من مشاعر بطريقة تلقائية لا نتكلف عناء التفكير بها.
فالحاسة سلسة وسهلة تكون بعفويتها المرهفة كطبيعتها. ألبستنا الجائحة الكمامات لتخفف من فعل حاسة الشم. والمشكلة الكبرى، كما يراها الطبيب النفسي اللبناني جورج كرم أن الجائحة أوجدت حاجزاً "لاذعاً" لأن أحد عوارضها فقدان حاسة الشم.
ولسوء الحظ عند بعض المصابين، حتى بعد أن يتعافوا منها، لا يستعيدون حاسة الشم مثلما كانت قبل إصابتهم وهذه مشكلة كبيرة على المدى البعيد.
أما الأشخاص غير المصابين بكوفيد-19 فيرتدون الكمامات معظم الوقت، وهي تشكل عائقاً بحد ذاتها بين الناس، مما يؤدي لتخفف حاسة الشم لديهم فيتشكل عازل بينهم وبين الآخرين.
يتطلب الأمر برأي كرم أن يكون الشخص واعياً، رغم أن ما يُطلَب هنا أمر يفعله الإنسان تلقائياً في لاوعيه كما يشرح "فهذه مشكلة وعلينا التعايش معها حتى تنتهي الجائحة ونخلع كماماتنا".
رغم أن الطبيب النفسي يصفها بـ"المشكلة الحقيقية" لكنه لا يراها "كارثية" إذ يمكن التعايش معها، لكن على الإنسان أن يكون واعياً للمسألة. فإذا شعر بأنه سريع الانفعال أكثر ويُبقي على مسافته من الآخرين فذلك يعود لشعوره بهوة بينه وبينهم، خصوصاً إذا ما كان إنساناً محباً واجتماعياً بطبعه. ومن أحد الأسباب التي تدفعه لذلك هو خفوت حاسة الشم بسبب ارتداء الكمامة وضرورة تذكير نفسه بالموضوع.
تتدخل الرائحة في حياتنا الشخصية بعمق وبخفة من دون أن ننتبه. فهي تؤثر في قرارنا بشأن شريك حياتنا
فحاسة الشم هي أقوى الحواس المرتبطة بالذاكرة. وأثبتت الدراسات أن الذكرى التي لها علاقة بحاسة الشم هي أهم وأقوى من الذكريات المرتبطة بالحواس الأربع الأخرى.
عندما نستنشق رائحة معينة تعيدنا مثلاً إلى طفولتنا ويمكن أن تكون روائح محببة أو لا تكون لكنها تحرك مشاعر معينة فينا.
والمشكلة برأي الطبيب أن الناس لا يدركون أهمية هذه الحاسة إلا عندما يخسرونها. يعتبرونها أمراً مسلماً به "تحصيل حاصل". لكن عندما يفقدونها، مثلاً بسبب الرشح أو كورونا في هذه الأيام، يختبر الناس كيف يخف استطعامهم للأكل ويصبح الشم مخدراً لديهم. يخلق ذلك حاجزاً بين الشخص ومحيطه ويشعره بهوة بينه وبين الآخرين ويظن أنه بسبب التعب الجسدي، لكن فعلياً سببه فقدان حاسة الشم لديه.
رغم ذلك كله، يشدد الطبيب على ضرورة ارتداء الكمامات، غسل الأيدي مرات عدة بالماء والصابون خلال اليوم، والإبقاء على مسافة التباعد الاجتماعي. إذ يشهد العالم الموجة الثانية من انتشار الفيروس وذلك له علاقة برأي كرم بعدم احترام الناس لهذه الأمور السهلة والبسيطة التي تنقذ حياة الكثيرين إذا ما التزموا بها. "كوفيد-19 ليس مزحة، هو فيروس حقيقي فرجاءً ارتدوا الكمامة".
توافق مؤسسة Ideo Parfumeurs للعطور لودميلا بيطار مع الطبيب باعتبارها أن " الكمامة ليست "حدثاً درامياً" فيما يخص عالم العطور. فرغم أن الكمامة تحجب كثافة الرائحة والأصوات كما عبرت، اتجه الناس نحو اختيارات مكثفة في العطور "لشعور أفضل بالحضور".
ولا تثير حاسة الشم العطور فقط، بل أيضاً روائح الطهي والشموع التي نضيئها في منازلنا لتشعرنا بحال أفضل. فالحاسة تثير العواطف بشكل كبير. وبرأيها يشكل العطر متعة حميمية وشخصية متجددة. لذلك بنت هذه العلاقة التي لا تنضب أسُس سوق عمل العطارين.
يصنعون عطوراً لإثارة مشاعر إنسانية مختلفة كالقوة، الرغبة، الاسترخاء، الحيوية كما وتختلف العطور ليس باختلاف مشاعرنا فقط بل مع تقلب الفصول أيضًا.
تتدخل الرائحة في حياتنا الشخصية بعمق وبخفة من دون أن ننتبه. فهي تؤثر في قرارنا بشأن شريك حياتنا. إذ أظهرت الدراسات أن الرائحة تلعب دوراً مهماً جداً في الانجذاب بين شخصين. فرائحة جسمنا التي تنتجها جيناتنا تساعدنا في لاوعينا في اختيار شريك حياتنا.
تؤكد بيطار أن حاسة الشم ستحيا رغم الجائحة، وعملها كذلك لكن مع تعديلات ومقاربة مستدامة وسهلة وانطلاقات متجددة وأقل استهلاكاً عشوائياً للمنتَج.
تدرك لودميلا أنه في النهاية في ظل الأزمة الاقتصادية التي سببتها كورونا "لا شيء أهم من تناول طعام صحي وتأمين منتجات التنظيف وشيءٍ من الملابس لنرتدي". في المقابل لا ترى أن الاستمرار في التعطر والاستمتاع بروائحه فعل أناني وتفيد بأن العطر يبقى منتجاً رفاهياً يستطيع الإنسان أن يحيا من دونه، فهو ليس عاملاً أساسياً في استمرار حياته سوى تنفس الهواء النظيف والصحي.