سْكوليموفسكي يلتقط أهوال بشرٍ وتمزّقاتهم بعينيّ حمار

30 ديسمبر 2022
EO: عينان حزينتان أمام أهوال بشرية (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

في جينيريك النهاية، تُذكر أسماء عدّة للشخصية الرئيسية في EO، جديد البولندي يرجي سْكوليموفسكي (1938)، "الحمار ذو اللون الرمادي والعينين الحزينتين"، وهذا تعبيرٌ معتمد في الملخّص الرسمي للفيلم، المنشور في الموقع الإلكتروني لمهرجان "كانّ" السينمائي، كما في مقالات وملخّصات مختلفة. للحمار اسمٌ/أسماء كبقية الشخصيات البشرية. لكنّ مواقع إلكترونية، فرنسية وإنكليزية تحديداً، غير معنية بذكر أيّ منها. مقالاتٌ، يتباهى كاتبوها بأنّ الحمار "شخصية أساسية"، غير معنيّة بذكر اسمٍ له.

لا علاقة لهذا كلّه بالفيلم نفسه، الفائز بجائزة لجنة تحكيم مسابقة الدورة الـ75 (17 ـ 28 مايو/أيار 2022) لمهرجان "كانّ" نفسه، الذي يعتمد عنواناً آخر له: Hi-Han. الحزن، الذي يُمكن أنْ يبلغ مرتبة الكآبة، والعينان المليئتان بهما (حزن، كآبة)، ونهيقه المصنوع بمؤثّرات صوتية، تؤكّد كلّها أنّه كائن حيّ، يختبر تحدّيات، ويواجه مصاعب، ويلتقي أناساً أشراراً وأخياراً، يعاني بعضهم أهوالاً وتشقّقات وانهيارات، ويبحث بعضٌ آخر عن منفذٍ لخلاصٍ مرجوٍّ، ويتوه بعضٌ ثالثٌ في دروبٍ تبدو كأنْ لا نهاية لها.

حمارٌ يروي، بنهيقه وعينيه وملامحه التي تعكس انفعالاتٍ ونظرات، سيرة تجواله في أزقة أرواح، ومتاهات حياة، كاشفاً وقائع آنيّة في مجتمعات استهلاكية. مسألة تعذيب الحيوانات ومصير معظمها (المسلخ مثلاً، وتحويلها إلى مأكل للبشر) حاضرةٌ. فـEO يعاني في السيرك، جرّاء بطش أحد العاملين فيه، بينما صديقته الوحيدة عاجزة عن حمايته. قانونٌ جديد، يكافح تعذيب الحيوانات، سببٌ لإخراجه من السيرك، فتبدأ رحلته وسط أحوالٍ وبيئات وقيمٍ وتمزّقات، والإيجابيّ قليلٌ في عالم منهار.

في رحلته تلك، المنتقلة بين مدنٍ واجتماعٍ وأشخاصٍ ورغباتٍ واشتغالاتٍ، يحافظ EO على نقاءٍ، يقترب من الرومانسية بقدر ما يبتعد عن الوحش الكامن في نفوسٍ بشرية. رومانسية تجعله حزين العينين، اللتين تتطلعان حولهما لتوثِّق أهوالاً وإحباطات وعزلات. قصص عدّة تُروى، وشخصيات مختلفة تظهر، وفصول من سِيَر غارقةٍ في شقاء وقهرٍ وانكسارات وشرور، وعصبيّات تنبثق من مباراة كرة قدم، لتقول شيئاً عن عنفٍ أصيلٍ في ذاتٍ، فردية وجماعية. هذا كلّه يلتقطه حمار سْكوليموفسكي في 86 دقيقة (تصوير ميخال دِمِكْ)، بما لديه من مشاعر "يبرع" صاحبها في إظهارها. مشاعر يُمكن اختزالها بمفردات، يُعبِّر EO، فعلياً، عنها: قرف، خيبة، قلق، غضب، انكسار، توهان.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

الفيلم مستوحى من Au Hasard Balthazar، للفرنسي روبر بريسّون (1966)، ذي الموضوع المُتشابه مع EO: "لكنّ يرجي سْكوليموفسكي غير راغبٍ في إنجاز نسخة جديدة (منه)"، يكتب توما ديروش (الموقع الإلكتروني الفرنسي AlloCine، في 19 أكتوبر/تشرين الأول 2022). بالنسبة إليه، يريد المخرج البولندي أنْ "يُبحر" الجمهور "في تجربة حسية وتجريبية، بأسلوبٍ جديد في صُنع السينما". المُشاهدة كفيلةٌ بتبيان ما يرغب سْكوليموفسكي في فعله: هناك كمٌّ هائلٌ من المشاعر، التي يكشفها EO، إنْ تكن مشاعره الخاصة إزاء عالم البشر ومسالكهم وأهوائهم ونزعاتهم وميولهم وأشكال عيشهم، أو مشاعر أفرادٍ إزاء ما يواجهونه في حياتهم، وما يفعلونه فيتصرّفون بناء عليه.

هذا حاصلٌ بفعلٍ سينمائي، يُسرف صانعه في ابتكاراتٍ بصرية (سوريالية؟ غرائبية؟ فانتازية؟ هذه ملامح تُضفي جمالاً على مشاهد/لقطات)، تُكمِل قولاً بصورة، بإضافة مقطوعات موسيقية (بافل مِكْياتن)، لبعضها ثقلٌ غير مُريح في متابعة حالةٍ أو موقفٍ، ووفرتها تحول، أحياناً، دون متعة المُشاهدة. المقطوعات المختارة (موسيقى معروفة أو أصلية) تمتلك ما يمنح المُشاهدة أبعاداً وتأثيراتٍ. لكنّ وفرتها تُعطِّل هذا، رغم جمالياتها.

مع هذا، يتمكّن Eo، الحمار/الشخصية، من الإبقاء على حماسة المتابعة، فالحكاية حكايته، التي يُدرك سردها بصمتٍ، يتخلّله نهيقٌ للتعبير عن انفعالٍ أو حالة، وبنظرةٍ، تخرج من العينين إلى ما يُعرّي نظاماً وبيئة وأحوالاً بشرية.

مع ذكر فيلم الفرنسي بريسّون، هناك أيضاً "غوندا" (2020) للروسي فكتور كوسّاكوفسكي (الخنزير شخصية أساسية) و"بقرة" (2021) للبريطانية أندريا أرنولد: فيلمان وثائقيان يكشفان بعض أحوال العالم وأهواله، بعيون حيوانين. هذا يُحرِّض على قراءات لاحقة، فالأفلام معنيّةٌ بمعاينة تفكيكية لعالم اليوم، مستعينةً بكائن حيّ يعاني سلوكاً معادياً من أناسٍ يسعون إلى مصالحهم على حسابه.

المساهمون