سينما الانتفاضات العربية (1/ 3): الوثائقي غالب والروائي يفضح ممنوعات

15 فبراير 2021
التوانسة في 15 يناير 2011: "بن علي هرب" (فرنسوا غيّيو/ فرانس برس/ Getty)
+ الخط -

بعد 10 أعوام على بداية ما سيُعرف لاحقاً باسم "الربيع العربي"، علماً أنّ أقرب وصفٍ للحاصل في بلدان عربية عدّة ـ منذ إشعال التونسي محمد البوعزيزي النار في جسده، في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010 ـ يتمثّل بـ"انتفاضة" مدنية سلمية عفوية، قبل فرض حروبٍ وعنفٍ وإقصاء متنوّع الأشكال عليها وعلى ناسها؛ يُصبح للنقاش النقدي حول نتاجٍ سينمائي يُصنع بوحي منها، أو بتأثيراتٍ مباشرة لها على سينمائيات وسينمائيين، حيويةُ قراءةٍ وحوار وسجال، يجهد في تحليل صنيع يتوزّع على الوثائقي والروائي، ويطرح تساؤلاتٍ، بعضها مرتبطٌ بالعلاقة بين السينما والراهن، وبين الفيلم ولحظة اندلاع حدثه، وبين الصورة والواقع والذاكرة والتوثيق.

تساؤلاتٍ مختلفة يتناولها نقّاد وصحافيون سينمائيون وكتّابٌ عرب، في تحقيقٍ، يسأل عن أفلام الانتفاضات العربيّة، وعمّا تعاينه من حكايات وحالات، وعن أنماط اشتغالاتها، وعن مساراتها واهتماماتها وهواجس صانعيها.

الإجابات المُرسلة تقول أشياء يصعب اختزالها. بعضها يتعمّق في أحوال تلك النتاجات، وينظر إلى الأعوام الفائتة بشيءٍ من المسافة النقدية، تلك الموصوفة بالتريّث، ما يدفع نقّاداً إلى التساؤل عنه في لحظة الانتفاضة نفسها. إجابات تُنشر من دون اختزال، لما فيها من نقاطٍ يُفترض بها أنْ تُثير مزيداً من نقاشٍ مطلوبٍ. ورغم طول حجم بعض تلك الإجابات، يبدو نشرها من دون اختصار أفضل وسيلة لتعزيز فرضية النقاش المستمرّ، رغم أنّ تراجعاً في عدد أفلام الانتفاضات يحصل مؤخّراً، في مقابل تأكيد البعض أنّ عيش الحالات المختلفة ـ المتأتية من بدايات الانتفاضات، ومن تحويل الانتفاضات إلى حروبٍ مستمرّة إلى اليوم ـ خزّانٌ كبيرٌ من المواضيع والانفعالات، سيرفد النتاج السينمائيّ بمزيدٍ من الأفلام في المقبل من الأعوام.

في الحلقة الأولى هذه، إجابات الصحافي والكاتب الفلسطيني السوري راشد عيسى، والناقد المغربي سليمان الحقيوي، والكاتب والسينمائيّ اللبناني علي زراقط (تُنشر الإجابات وفقاً للترتيب الأبجدي للأسماء الأولى).

 

 

راشد عيسى:

تكسير قيود وخلق سينمات

بقدر ما يمكن القول إنّ الربيع العربي، إلى حدّ كبير، هِبة الكاميرا، يُمكن القول أيضاً إنّ السينما العربية الجديدة، بعد عام 2011، بإنجازاتها الفريدة، هِبة مناخ الحرية، الذي جاءت به الثورات العربية. تحرّرت السينما من مختلف قيود الرقابة، خصمها الأزلي، وبات كلّ ممنوع من قبل مطروحاً أمام الجمهور. مواضيع جديدة وضعت على طاولة البحث، خصوصاً عندما دخلت الكاميرا إلى أقبية المخابرات، وفضحت ما كانت تنكره الأنظمة، كما في "الشتا اللي فات" (2013) للمصري إبراهيم البطوط (تمثيل عمرو واكد)، الروائي المصري الطويل المُنجز بعد "ثورة 25 يناير" (2011) المصرية. فيلم مشغولٌ بحماسة اللحظة، وبإمكانات إنتاجية متواضعة.

في بعض بلدان الربيع العربي، ازدهرت سينمات، لكنْ، في بعضها الآخر، وُلدت سينما كانت غائبة لعقود، كما في السودان، حيث أُنجز الفيلم اللافت للانتباه "ستموت في العشرين" (2019) لأمجد أبو العلا، الذي ـ وإنْ لم يتطرّق إلى الثورة في بلده ـ اعتُبر جريئاً في طرحه مواضيع حسّاسة، وعُدَّت ولادته ثمرة من ثمرات الربيع العربي.

المُنجز الحقيقي لسينما الربيع العربي كامنٌ في السينما الوثائقية. هذا واضحٌ في أفلامٍ مصرية عدّة، أُنجزت أثناء "ثورة 25 يناير". هذا واضحٌ أكثر مع أفلامٍ سورية، رُشِّح بعضها للـ"أوسكار"، وأثار نقاشاً وكتابة كثيرين. في الجديد السينمائي السوري، يُمكن القول، رغم تشرّد السوريين في أصقاع الأرض، إنّ هناك بنى جديدة نشأت، تَعدُ بـ"موجة" جديدة، تلي العشرية الماضية. فالخبرة على الأرض أوجدت سينمائيين شغوفين، تلقّوا الدرس السينمائي من التجربة، في تماسٍ مع الموت، ويُنتظر أنْ تُثمر التجربة الآن جديداً مغايراً، على بعد مسافة من الحدث.

سواء كانت السينما وثائقية أو روائية، الواقع في السينما الجديدة هو البطل، إلى حدّ ربما تبدو الأفلام الروائية نفسها كأنّها وثائقية. كان لا بُدّ للواقع، المتخفّي تحت وطأة الرموز والمواربات وتمويهات الرقابة، أنْ يظهر عارياً هذه المرة.

يصعب أنْ تجد بين السينمائيين (الوثائقيين خصوصاً) من يُخاطر بنفسه ليصنع فيلماً مزوّراً. لذلك، معظم الأفلام صادقة جداً، حتّى تلك التي استأثر بها مخرجون، وضعوا أسماءهم عنوةً فوقها، إذْ تعكس في النهاية رجفة يد المُصوّر على الأرض، وخوفه وقلقه وبطولته. حتّى إنّه يمكننا تمييز تلك اللقطات المأخوذة تالياً من مسافة آمنة (بـ"الدرون" مثلاً)، عن تلك المصوّرة في قلب الخطر.

عموماً، هؤلاء الذين انتموا باكراً إلى الثورات وآمنوا بها يصعب ألا يقدّموا أفلاماً صادقة، ولشدّة صدقها لا تخضع لقواعد راسخة، خارجة عنها، ومهتزّة على الدوام، ومرتجلة أحياناً. إنّها، بكل ذلك، تثبت أنّها حقاً ابنة الواقع. تذكيرٌ هنا بكيف بدأ "لسّه عم تسجل" (2018) لسعيد البطل وغياث أيوب، المُصوّر في غوطة دمشق، في ظلّ الحصار: المخرج يُدرّب شباناً على استخدام الكاميرا، وشروط اللقطة السينمائية. في ما تبقى من الفيلم، نرى خروجاً مستمراً عن القواعد، أي أنّ هناك استحالة في العثور على شروط مثالية.

 

لكنّ تلك الأفلام صُنعت لاحقاً. حين يُركّب فيلم (في مكان آمن ومريح هذا المرة) من مئات الساعات المُصوّرة، لا بُدّ أنّ يخضع لسيناريو ومونتاج وموسيقى مصنوعة. هنا، يُمكن الحديث عن "انتهاكات" جرت بحقّ المواد المُصوّرة، ويمكن الإشارة مثلاً إلى "رسائل من اليرموك" (2015): صوّره السينمائي الشاب نيراز سعيد، الذي قضى تعذيباً في سجون النظام السوري، وأظهره إلى النور المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي.

مقابل ذلك "الربيع السينمائي" المبشّر، كان بديهياً أنْ تتابع سينما الطغاة عملها، كبروباغندا للأنظمة المستبدّة. سينما ارتدت البدلة العسكرية، ونزلت إلى خندق المواجهة. تناولت المواضيع نفسها، لكنْ من وجهة نظر السلطة، كما فعل نجدت أنزور في أفلامه كلّها بعد عام 2011، وجود سعيد. أفلامهما تحتل المساحات نفسها التي صُوِّرت فيها أفلام الثوار (صانعي الربيع العربي)، بل إنّ عنوان فيلمٍ لجود سعيد، "بانتظار الخريف" (2015)، يعني بالضبط أنّ الربيع العربي لم يكن ربيعاً بنظره. طبعاً، ليس العنوان وحده، فأفلامه ـ خصوصاً "مطر حمص" (2014)، الذي يقدّم الحدث من وجهة نظر طائفية ـ أخذت على عاتقها تقديم حجج مضادة تماماً لحقائق، يعرفها الناس (أصحاب الضمير) في سورية وخارجها.

 

سليمان الحقيوي:

موجة جديدة لكنّها مُعطّلة

10 أعوام، مدّة كافية لإجراء حصيلة نقدية أولية عن فترة هزّت المنطقة العربية سياسياً، ولا تزال تبعاتها دائمة التغيّر والتشكّل.

بداية، يُمكّننا هذا العقد، بالخيبات والتطلعات التي عشناها فيه، من إعادة بناء العلاقة مع مقولة التريّث، الرائجة كثيراً في أحداث الربيع العربي، ومعناها وجوب ترك مسافة مع الحدث قبل الاشتغال عليه فنياً. هذه المدّة، بما عرفته من استرجاع الأنظمة العربية لسلطتها ومكانتها، وابتكارها طرقاً جديدة لقمع كلّ محاولة للمناداة بالحقوق، تدفع إلى التساؤل عن إمكانية مشاهدة أفلام تنتصر للحدث، خصوصاً مع امتلاك هذه الأنظمة أدوات التزييف وإعادة كتابة التاريخ، أحياناً عبر السينما نفسها. يمكننا هنا أن نرى التوجّس غير المبرّر من الثورة في أفلامٍ تجارية، حقّقت نسب مُشاهدة كبيرة، بالإضافة إلى انقسام الناس حول مآلات الوضع، بتوجيهٍ يومي ومتواصل من الأجهزة الإعلامية.

في مصر مثلاً، اعتُقل الصحافي الفرنسي آلان غريش أثناء حديثٍ له مع صحافيّتين مصريتين عن الأوضاع في مصر. بدأت سيدة مصرية بالصراخ، وأخبرت الشرطة. أصبحنا الآن أمام حالة معلنة تُعادي كلّ نشاط فني/ أدبي يستحضر الربيع العربي وامتداداته. ربما يبدو هنا ألا فرصة لمشاهدة فيلم سينمائي يقترب من ذاكرة الربيع بشكل مباشر.

الوثائقيّ، بفعل أدواته الفنية وارتباطه الوثيق بالواقع، تمكّن من الانطلاق أولاً، وبعفويةٍ تجلّت في مئات التسجيلات عبر كاميرات الهواتف، المُحمَّلة كلّ دقيقة على وسائل التواصل الاجتماعي. فظاعة وهول ما رأته العين انتقلا مباشرة إلى ذاكرة الكاميرا، بالهاتف أولاً، ثم بكاميرات احترافية. الخوف من عدم وصول هذه الأهوال إلى الناس انتقل مع المادة المروية. هذا يُفسِّر سرعة الاشتغال على الوثائقيّ في أكثر من بلد، أهمّها التجربة السورية، التي تعدّدت فيها المواضيع، لتحصي تقريباً حجم المآسي. استمرّت الأفلام في مواكبة قوّة الحدث، بخصوصية تميّز كلّ بلد عن الآخر.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

في مصر، التي عرفت نزول سينمائيين كثيرين إلى الشارع، تشكّلت القصص بنضجٍ فني متفاوت. وثائقياً، أعلن "تحرير 2011: الطيب والشرس والسياسي" (2011) ـ لـ3 مخرجين، هم تامر عزت وآيتن أمين وعمرو سلامة ـ عن الحراك المصري، وكرّس خاصية فنيّة ستتكرّر لاحقاً في أفلام مصرية أخرى، أي الإخراج والإنتاج المشترَكَين. أما "الميدان" (2013) لجيهان نجيم، فعرض أحداث مصر بين عامي 2011 و2013، ولم تفته الإشارة إلى حالة الإحباط التي كانت في بداية تشكّلها.

الوثائقي السوري عدّد المأساة من زوايا مختلفة، بأفكارٍ أكثر اختلافاً، وبنضج فني يستدفئ بحقيقة الوثائقي، بدءاً من "العودة إلى حمص" (2013) لطلال ديركي، و"ماء الفضة" (2014) لأسامة محمد ووئام سيماف بدرخان، ثم "آخر الرجال في حلب" (2017) لفراس فياض، و"عن الآباء والأبناء" (2017) لديركي أيضاً. يبقى "إلى سما" (2019)، لوعد الخطيب، آخر ما شاهدناه عن الانتفاضة السورية، والأكثر نجاحاً وتأكيداً على علاقة الوثائقي السوري بالتوثيق.

أما الروائيّ عن الثورات العربية، فيصطدم بعوائق أخرى، إنتاجية تحديداً، لم تكن مطروحة بداية. للانفتاح على الروائي الحماسة نفسها تقريباً للعمل الوثائقي. في هذا، تتميّز التجربة المصرية، في أفلامٍ تلت الثورة مباشرة: يُسري نصرالله تناول، في "بعد الموقعة" (2012)، أحداث موقعة الجمل. بعدها، تخلّص الروائي من الارتباط الكبير بالحدث، وتتبّع حيوات شخصيات شاركت فيه. تجلّت هذه السّمة في "الشتا اللي فات" (2012) لإبراهيم البطوط، الذي قلّل من توظيف تسجيلات الحراك، وانتزع حقّه في التخييل. هناك أيضاً "18 يوم" (10 أفلامٍ قصيرة لـ10 مخرجين)، الذي يُعتبر تجربة فنية فريدة، وليدة سياقها، تنفتح فيها القصص بعضها على بعض. أما "اشتباك" (2016) لمحمد دياب، فاشتغل بذكاء على عنصر المكان، الذي يضيق بشخصياته المعذّبة.

السينما التونسية اهتمّت، أكثر من غيرها، بتأثير الحدث على الشخصيات، أكثر من اهتمامها بمساهمة الشخصيات في صنع الحدث. مُلاحظة تتأكّد في "الربيع التونسي" (2014) لرجاء العماري، و"على حلّة عيني" (2015) لليلى بوزيد، و"غُدوة حيّ" (2016) للطفي عاشور، الذي أكّد حالة الإحباط التي عاشها الشباب في تونس. في المغرب، تظل تجربة هشام العسري متميّزة، خصوصاً في "هُم الكلاب" (2013)، الذي ربط بين "سنوات الرصاص" و"حركة 20 فبراير". أما "يوم أضعت ظلّي" (2018)، لسؤدد كعدان، فأزال عن السينما السورية ـ التي اختارت الوثائقيّ قسراً ـ انحيازها إليه، مشتغلاً على قصّة جميلة بأدوات سينمائية متمكّنة، تركز على تداعيات الحدث لا على عنفوانه.

بوادر تَشكّل ملامح سينما تحاكي، في وهجها، مناخ الحرية الجديد، خَفتت سريعاً، بعد بدايةٍ شهدت تقارباً كبيراً بين صناع السينما، سواء بالاستفادة من الدعم المشترك والعمل وفق تصوّرات متقاربة، أو بفضل جهد ذاتي، كما في تجربة "الشتا اللي فات" و"تحرير 2011"، وفي أفلام الميزانيات المنخفضة أيضاً. أمرٌ كهذا كان يُمكن أنْ يؤدّي إلى موجة جديدة بخصائص جمالية، تعبّر عن هذه المرحلة.

 

علي زراقط:

كأنّها أفلامٌ متجوّلة

لديّ انطباع بأنّ الأفلام التي صُنعت في الأعوام العشرة الماضية غير كافية. ربما لأنّها أفلام نتجت عن انتفاضات مبتورة، وعن انتفاضات ذات أصوات مختفية في تعدّدها. على نبلها وقيمتها التوثيقية العالية والمهمّة طبعاً، يمكن القول إنّ أغلب (لا كلّ) الأفلام، المنجزة بعد ديسمبر/ كانون الأول 2010 ـ تاريخ بدء الانتفاضات من بوابة تونس المشرقة ـ كانت أقلّ اهتماماً بالجانبين الفني والتقني من العمل.

في السينما، اعتدنا أنْ تحمل الحركات الشعبية أو الانتفاضات الكبيرة سينما جديدة كلّياً. حدث هذا بشكل عظيم مع الثورة الروسية، التي جاءت بدزيغا فرتوف وسيرغي أيزينشتاين، واختراعاتهما الأسلوبية على صعيد الصنعة. كذلك حدث بعد الحرب العالمية الأولى في أوروبا، والحرب العالمية الثانية في أوروبا وأميركا، وهكذا. لكن، بعد مُشاهدتي عدداً من الأفلام الخارجة من أجواء الانتفاضات العربية، أحسّ أنّي لا أرى شيئاً جديداً. لا أرى اقتراحاً سينمائياً كبيراً على الصعيد الفني.

أغلب الأفلام التي رأيناها أشبه بتسجيل للوقائع، عبر رؤية شخصية لصانع الفيلم. أفلامٌ لم تهتمّ كثيراً بالبعد التقني، وهذه سمة الاستعجال، بغية التقاط اللحظة. بعضها صُوِّر بكاميرا الـ"موبايل"، أو صُوِّر كمحاولة أرشفة للأحداث، قبل أن يكون هدفه الخروج إلى الشاشة. كانت الكاميرا تبدو متعجّلة ومرتبكة بألوانٍ تميل دائماً إلى الرمادي، أو بأجواء احتفالية سعيدة في الميدان، مع ما يحمله هذا من صورة مغبّشة، تحاول دائماً التقاط المشاعر، إذْ ما هي اللحظة ومُشاهدتها إلا الإحساس بالشعور. بذلك، تحاول التقاط لقطاتٍ مقرّبة على الوجوه لأناسٍ سعداء أو متحمّسين أو غاضبين.

هناك أيضاً أفلامٌ تعبّر بشكلٍ مباشر عن معاناة من القمع، أو عن الأهوال الكبيرة للحرب. أفلامٌ كهذه تبدو دائماً كأنّها أفلام متجوّلة. كاميرا تمشي، وتحاول نقل التجربة إلى المشاهد بأكبر قدر من الصدق. طبعاً هذه الإرادة، أو هذا الاتجاه، أدّى إلى شكل بصري يشبه الكاميرات الفردية الخاصة، والتسجيلات بكاميرات الهواتف، أي أنّها لقطات مباشرة قريبة من الموضوع، ذات شحنة شعورية عالية.

إلا أنّ هذا النمط، الذي ميّزه الصدق، لا يستطيع الفكاك من صفة المُصوّر المندهش، أو المُصوّر المشاهد للأحداث، فتخرج الأفلام كأنّ صانعيها مشاهدون أو شهود على الأحداث. ربما يكون التمويل الأجنبي، ودعوات المهرجانات العالمية للحصول على الأفلام العربية، قد عزّز هذا النمط، الذي يحاول أنْ يكون بريئاً أمام الأحداث، وناقلاً لها، بمحاولة الصدق الأكبر، رغم كلّ ما تحمله الكاميرا من شحنات عاطفية، ما كان ـ برأيي ـ يوقع أغلب الأفلام في تناقض/ ورطة.

هل نتحيّز وندّعي أنّها الحقيقة؟ هل نكون حياديين؟ كان من المستحيل الوقوف على الحياد في تلك اللحظات، إنّ في الوثائقيات أو الأعمال الروائية. في هذا المجال، أذكر أفلاماً بقيت في مخيّلتي، كـ"بعد الموقعة" (2012) للمصري يُسري نصرالله، أسرع محاولة لفهم الانتفاضة المصرية، ووضعها ضمن إطار من الفهم الطبقي؛ يُقابله مثلاً فيلمٌ وثائقي لبسام مرتضى، "الثورة.. خبر" (2012)، الذي يُلاحق مجموعة من المُصوّرين خلال تغطيتهم الأحداث. في تونس، هناك "الربيع التونسي" (2014) لرجاء العماري و"على حلّة عيني" (2015) لليلى بوزيد، اللذان حاولا ـ كلّ على طريقته ـ فهم الأسباب المؤدّية إلى الانتفاض.

أما في سورية، فالمأساة أكبر وأطول، وأنتجت مجموعة من الوثائقيات التي تشبه بعضها في مكان ما، كونها توثيقاً لكمية الدمار النفسي والعمراني، كـ"العودة إلى حمص" (2013) لعبد الرحمن النحاس وطلال ديركي، و"الخوذات البيضاء" (2016) لأورلاندو فون انشيديل. كلّ هذه الأفلام لم تستطع تجاوز اللحظة، في المصيبة أو الفرح، وربما يصعب الطلب منها أنْ تفعل ذلك.

في المقابل، هناك موجة مضادة من الأفلام، كـ"الاعتراف" (2019) لباسل الخطيب، الذي يضع الأحداث في قالب درامي ممتد من تقاليد الدراما السورية المعروفة، ليرينا الحرب من وجهة نظر مختلفة تماماً عن الوجهة الثورية. أو "نجمة الصبح" (2019) لجود سعيد. كنموذج، الصوت "الفني" لأفلامٍ كهذه أقوى وأكثر ظهوراً، يمكن أن تُلاحَظ فيه رؤية إخراجية واضحة ومُعالجة درامية، لكنّها تأتي من نمط تقليدي في الصناعة لا يشبه المرحلة.

في النهاية، أظنّ أنّه لو أردنا مقياساً على الأفلام من حيث تأثيرها، فالأفلام "الثورية" العربية كانت ناجحة في المهرجانات وصفحات النقد وعالم الجوائز، ومُقدّر لها، في مكان ما، أنْ تساهم في توثيق اللحظة، إلّا أنّها لم تقدر أنْ تتجاوز اللحظة.

يخطر لي هنا ذلك الفيديو، الذي انتشر ليلة 14 يناير/ كانون الثاني 2011، للمحامي الواقف ببطولة فريدة وسط الشارع، يصرخ ملأ صوته بمشهد تراجيدي: "بن علي هرب". يصعب جداً على أيّ فنان أنْ يتجاوز لحظة كتلك. لم أشاهد حتى اليوم فيلماً يستطيع أنْ يُقارع هذه اللحظة قوّة، أو أنْ يعادلها، أو أنْ يأخذها إلى أبعد مما هي عليه في الفلسفة أو الميتافيزيقيا أو المجتمع، أو العوالم الداخلية للفرد.

المساهمون