سينما الأفلام القصيرة: فنّ التقاط اللمحة

06 ديسمبر 2021
"المنسيون" للفرنسي جوليان جوديشو: مؤثّرٌ ومؤلمٌ (الملف الصحافي)
+ الخط -

منذ بداية السينما، تربّعت الأفلام القصيرة، لأسبابٍ تقنية وإنتاجية أساساً، على عرش المُنتج السينمائي. لكنّ شعبيتها تراجعت سريعاً، وانزوت بشدّة في عشرينيات القرن الـ20، وأوائل ثلاثينياته، إذْ بات الجمهور يطمح إلى شخصيات وأحداث أكثر تركيباً وتعقّداً وإثارة. ثم تطوّرت المفاهيم، وأدركت الصناعة، ثم الجمهور، أنّ الفيلم القصير ليس نسخة مختصرة، أو سينما لكنْ قصيرة، بل شكلاً سردياً مختلفاً تماماً، من حيث الإيجاز والتركيز والتكثيف، وعدم تعدّد الحبكات أو تفرّعها أو تشابكها، وإحكام بناء الشخصيات، إنْ كانت هناك شخصيات، أساساً، بالمعنى المتعارف عليه. كذلك الحوار المقتضب، أو انعدامه كلّياً، وحتّى انتفاء الصراع. أي، باختصار، كلّ ما يجعل الأفلام القصيرة ذات خصوصية شديدة، كالقصّة القصيرة: فنّ التقاط اللمحة واللحظة المتفجّرة.

 

حضورٌ في مهرجانات

رغم أهميتها المتزايدة في العقود القليلة الماضية، لا يُلتفت كثيراً إلى الأفلام القصيرة، في الفعاليات المكتظّة في المهرجانات السينمائية الكبرى، التي تبدو برمجتها الهامشية ضرورية لاسكتمال المشهد العام. إذا لم تنوجد هذه الأفلام، لن يلاحظ أحدٌ عدم وجودها. هذا لا يتعارض أبداً مع وجود مهتمّين كثيرين، وشغوفين حريصين على متابعة الأفلام القصيرة وبرامجها بحبّ وشغف، مقارنة بغيرها. لكنْ، يظلّ الاهتمام والاحترام والتناول النقدي، الذي تناله الأفلام القصيرة، أهمّ وأكبر وأشمل في المهرجانات النوعية المخصّصة لها، مقارنة بتناولها الثانوي في المهرجانات الكبرى، أو غير المخصّصة لهذا النوع القصير.

لتفادي تلك المشكلة، يعرض "أسبوع النقّاد" في "مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي" أفلاماً قصيرة، مباشرةً قبل بداية كلّ فيلم من أفلام التظاهرة، في تقليد راسخ يتيح، أو ربما "يُجبر" المُشاهد على مشاهدة تلك الأفلام، من دون تخصيص مزيد من الوقت لها؛ ولغير المعتاد على مُشاهدة الأفلام القصيرة أصلاً. المُشكلة أنّ الأفلام المعروضة إيطالية حصراً. أما في أقسام أخرى، في "فينيسيا السينمائي" وغيره، كـ"أسبوع النقاد" و"نصف شهر المخرجين" في مهرجان "كانّ"، يبرز مدى الظلم اللاحق بالأفلام القصيرة المعروضة، نظراً إلى التغطية العريضة التي تحظى بها الأفلام الأخرى، وغلبة الاهتمام بالأسماء اللامعة لمخرجين وممثلين عالميين.

لذا، تهتمّ مهرجاناتٌ بالأفلام القصيرة، كمهرجانات متخصّصة بها، تحرص على تقديم أرقى الإنتاجات وأحدثها إلى جمهور يُحبّ هذا النوع الفني في العالم. أبرز تلك المهرجانات وأهمّها، بل أوّلها، أوروبياً، "مهرجان كليرمون فيران" في فرنسا، الرائد والعريق.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

بعد جولة سريعة على الأفلام الفائزة بجوائز مختلفة في "كليرمون فيران"، وفي غيره من مهرجانات الأفلام القصيرة، وفي أقسام الأفلام القصيرة ومسابقاتها المنعقدة في مهرجانات دولية كبرى، طوال عام 2021، تُلاحَظ سمات مشتركة بينها. من حيث الموضوع، تجنّبت غالبيتُها التأمّلَ الفلسفي والوجودي، وطرح الأفكار المركّبة والمعقّدة قدر الإمكان، فكانت معظم المواضيع آنيّة الطرح، ويوميّة التناول، يغلب عليها الطابع الفردي، وإنْ كانت ذات ميل إنساني، أو مُحمّلة بخطاب عالمي. ورغم تشابك اليومي والفردي والخطاب الإنساني، كانت المواضيع متنوّعة وثرية ومشوّقة، على قدر من الطرافة أو المأساوية، والذكاء والصدمة.

يظهر هذا مثلاً مع طرح قضايا الهجرة واللاجئين في الفيلم الرائع، بالأسود والأبيض "ما بعد اليوم" للبولندي داميان كوتسور: مواطن بولندي يأوي لاجئاً فلسطينياً لأيامٍ، بعيداً عن الشرطة، من دون أن يفهم أحدهما لغة الآخر؛ ومشاكل الشباب والصداقة ومغادرة المكان والتجنيد والحبّ والمراهقة، كما في الأوكراني "لسنا موتى بعد" للفرنسية جوان راكوتوريسوا، و"المجرمان" للتركي سيرهات كاراسلان، و"إنشي" للإيطالي فيدريكو ديماتي، و"شقيقات" للسلوفينية كاتارينا ريشيك كولكا، و"العاصفة" للباكستانية سيماب جول. كلّها تدور حول التيمات نفسها، بتناولات مدهشة من حيث الجدّية في مقاربة المواضيع من زوايا متباينة.

 

زمن كورونا

المواضيع المرتبطة بأزمة كورونا، كالإغلاق الذي شهدته عواصم عالمية، واستحالة عودة البعض إلى بلدانهم، إضافة إلى المشاكل المالية والنفسية والاجتماعية التي تسبّبت بها الأزمة، تحضر في أفلام قليلة، على عكس المتوقّع. أبرزها وأقواها: "المنسيون" للفرنسي جوليان جوديشو، و"الليل" للإيطالي أدريانو فاليريو، و"سراويل داخلية مريحة" للفنلندية مارلينا مارتيكاينن.

"المنسيون" مؤثّر ومؤلم: مجموعة مُشرّدين في باريس، أثناء حظر التجوّل بسبب كورونا، عاطلون عن العمل وشحّاذون وعاهرات وغيرهم. عن كيفية تصرّفاتهم وعيشهم واقعاً كهذا، للبقاء أحياء، رغم الظرف العصيب. "الليل" تأمّلي، يعاين المسألة نفسها من زاوية أخرى، راصداً التجربة الشخصية لمخرجه، عندما علق في دولة آسيوية، وحال توقّف الطيران الدولي دون عودته إلى بلده. يستعرض الفيلم بعض المشاق التي واجهها، كعدم تحدّثه لغة البلد، وصعوبة التواصل مع الخارج، وقسوة الوحدة. في "سراويل داخلية مريحة" تُقدِّم مارتيكاينن تجربتها الشخصية أيضاً، في محاولتها كسب بعض المال في فترة الحظر، بعد توقّف العمل، واضطرار الجميع للبقاء في منازلهم، ما أرغمها على بيع بعض السروايل الداخلية ـ الفائضة وغير المستعملة ـ على شبكة "إنترنت".

فنياً، أغلب الأفلام على قدر كبير جداً من القوّة المتجلّية بوضوح في سهولة الطرح، وعدم التشتّت، وجودة التمثيل، والابتعاد عن بطء الإيقاع، كما عن التناول التسجيلي الوثائقي، مع ميل أكبر إلى الدراما، والاستعانة بممثلين، وإنْ كان بعضهم من الهواة. مع عدم إهمال الجوانب البصرية، والجماليات الفنية، وإنْ لم تكن الأخيرة تحتلّ أهمية كبيرة لدى صنّاع تلك الأفلام، مقارنة بما عليه الأمر في الأفلام الروائية الطويلة، إذْ للمونتاج وحركة الكاميرا الدور الأكبر.

من الأمور الإيجابية، اللافتة للانتباه، مشاركة أفلام عربية قصيرة، سنوياً تقريباً، في المهرجانات الكبرى، المتخصّصة وغير المتخصّصة، كتورنتو وكليرمون فيران وقمرة ولوركارنو والجونة، وغيرها، وبعضها يفوز بجوائز، على عكس الأفلام الروائية الطويلة، رغم أنّها لا تختلف كثيراً عنها، لكونها محصورة غالباً في نوع واحد، دراميّ أساساً، ونادراً ما تحيد عن السرد الخطي، أو تجنح إلى الابتكار والتجريب، شكلاً. هناك شطط الإبداع وجموح الفانتازيا على مستوى المضمون أو التناول، كما أنّها إجمالاً بعيدة جداً عن التطوّر التقني والإبداعي المُلاحَظ دائماً في أفلام الرسوم المتحرّكة، على اختلاف أفكارها وتوجّهاتها وإبداعاتها.

يروي "الست"، للسودانية سوزانا ميرغني، قصّة عاطفية عن النساء والتحكّم بهنّ وبمصائرهنّ، وعن النظام السلطوي والتغيّرات الاجتماعية في ضوء العصر، وغيرها من الأمور الاجتماعية والثقافية والسلوكية المشتركة في المجتمعات العربية. لذا، يصعب على المُشاهد العربي رؤية جديدٍ أو مغاير. لكنّ ميرغني بذلت جهداً ملموساً في الخروج بما هو سينمائي من كلّ هذا، ما جعل فيلمها، سينمائياً، يتفوّق على أعمالها السابقة، ويُعتَبر نقلة لافتة للانتباه في مسارها.

في السياق نفسه، وإن على نحو مكثّف ومختلف سردياً وبصرياً، هناك "غداً يأتي الحبّ"، للّبناني ركان ميّاسي: عاملة سورية في حقول البطاطا في لبنان، تعود إلى منزلها لتودّع الطفولة والبراءة، وتبدأ حياة جديدة غامضة ومجهولة. إنّه المصير المجهول نفسه الذي ستمضي إليه بطلة "القاهرة ـ برلين"، للمصري أحمد عبد السلام، هرباً من أوضاع اجتماعية ونفسية وسياسية خانقة وضاغطة. عن مشاكل المرأة، وتحديداً الحياة الزوجية، هناك "شكوى"، للّبنانية فرح الشاعر، الذي تناول بإيجاز مشكلة المرأة المظلومة والمضطهدة، بسبب عجز القوانين وجمودها ولامنطقها، ما دفع البطلة، في النهاية، إلى اختيار أسوأ الحلول، خوفاً على حياتها. هذا يتناقض مع ما فعلته بطلة "أنا والولد الغبي"، للتونسية كوثر بن هنية، التي حوّلت لحظات ضعفها والتنمّر عليها من حبيبها السابق إلى لحظة انتقام وثأر لنفسها.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

عن المرأة كأمٍّ، وعن صعوبات الوحدة والتقدّم في العمر، وألم جفاء الأبناء خصوصاً، وبصيغة ذات بعد إنساني عالمي مجرّد، كان فيلم "بيتي"، للّبنانية الفرنسية إيزابيل مكتاف.

 

المشهد العربي

برؤية طريفة مغايرة، ترى العالم ببراءة أكثر، رغم قتامته، في 3 دقائق، كما في "بيانو الجدار"، لأسماء غانم وكريستوفر مارينيتي وألكسيا ويبستر: طفلة من رام الله ترى حاجز قلانديا الخرساني الفاصل كأصابع بيانو. إليه، تذهب رفقة صبيةٍ وصبايا، يعزفون عليه بهمّة ونشاط. على نحو يجمع بين الكوميديا والسوداوية لانتقاد العادات والتقاليد، والبيئة الاجتماعية والتخلّف، قدّم السوري رمزي بشور "الأشجار": مهندس زراعي جاء إلى قريته الريفية في لبنان للمُشاركة في جنازة والده، فاكتشف جرثومة تصيب الأشجار، وتُهدّد القرية برمّتها.

يُذكر أنّ صعوبات إنجاز الأفلام القصيرة في العالم العربي لا تُقارن بتلك المرتبطة بالأفلام الروائية الطويلة، إنتاجاً وتوزيعاً ورقابة. هناك سهولة نسبية في إنجاز عددٍ كبير منها سنوياً، وبروز بلدان عدّة بإنتاجاتها القصيرة، في حين أنّها ليست ذات ثقل أو تاريخ سينمائي. مؤخّراً، بات التمويل الدولي للأفلام القصيرة، وما يتاح لها من عروضٍ دولية ومهرجانات، غير عسير، مقارنة بالأفلام الطويلة. مع ذلك، هناك معضلة كبيرة تواجه الأفلام العربية القصيرة، تتعلّق بالعرض، إذْ يستحيل تقريباً أنْ تُخصِّص صالات السينما عروضاً للأفلام القصيرة، ما يؤدّي إلى مشكلة عرضها وتوزيعها وانتشارها والتعريف بصنّاعها، وهذا يختزل حضورها بأقسامٍ وبرامج وتظاهرات جانبية في المهرجانات. أمرٌ يُرسّخه شبه انتفاءٍ لوجود مهرجانات مخصّصة بالأفلام القصيرة تحديداً، رغم سهولة الترتيب والتنظيم والتمويل، مقارنة بالمهرجانات الأخرى.

في مستوى فني آخر، يُلاحظ ما يلي: نادراً ما يتخصّص المخرجون العرب في إخراج الأفلام القصيرة فقط، بعكس ما يحصل في الغرب، حيث يُخرج كثيرون أفلاماً قصيرة فقط، كمشروع إبداعي، يحمل رؤى وفلسفة وفكرا للعالم والبشر، تعبّر عنه أفلامهم تلك، لما لها من فرادة مرتبطة بخصائص هذه السينما وجمالياتها. تلك الملاحظة تؤكّدها الرغبة السريعة للمخرجين العرب في الانتقال مباشرة إلى الأفلام الروائية الطويلة، بعد أول قصير، ما أدّى ـ في حالات كثيرة ملحوظة منذ أعوامٍ طويلة ـ إلى إنتاج أفلامٍ روائية طويلة دون المستوى، لمخرجين كانوا واعدين في أفلامهم القصيرة.

من مفارقات الأفلام القصيرة في العالم العربي، ذلك التباين على مستوى الكتابة السينمائية نفسها، في الأفكار أو السيناريو. هناك ثراء في الأفكار والرؤى، وكتابة مُكثّفة وحِرفية للسيناريوهات. بينما الأفلام الطويلة تعاني في هذا الإطار، ما يطرح أسئلة كثيرة عن ماهية الكتابة السينمائية العربية برمّتها.

المساهمون