رغم قسوة الظروف جرّاء وحشية النظام السوري، ورغم براميل القصف التي دمرت أحياء بكاملها في المدينة، بقي الفنّان التشكيلي السوري سعد يكن في حلب إلى أشهر قليلة خلت، قبل أن ينتقل إلى بيروت، عسى ان يتابع الرسم الذي شكل محور حياته لعقود طويلة.
"العربي الجديد" رافق مسيرته في حوار خاص.
لماذا تركتَ سورية؟ ولماذا بقيتَ فيها حتّى الآن؟
عشتُ سنوات الحرب الثلاث - الحرب التي لم تنتهِ بعد - كاملة، بكل ما عليّ من مسؤوليات وما يترتّب من واجبات. لكنّني لم أعد أشعر أنّ لي دوراً يمكن أن أؤدّيه، أحسستُ أنّ لا أهمية لي، ولا مكان، ولذا اتخذت قراراً بالمغادرة. منذ عام وأنا أتردّد إلى بيروت. كنت أقول لكلّ من يسألني ويستغرب أنّني قادم من حلب: "ما زال الوضع مقبولاً، لا تستمعوا إلى المبالغات، الناس قادرة أن تحيا وتكمل حياتها". لكنّني فقدت هذا اليقين في الأسابيع الأخيرة، وصرت أسأل نفسي: أيّ فائدة لي وسط هذا الخراب والبؤس؟ لم أنجز أيّ عمل فني طوال السنتين الأخيرتين. ما فائدتي من دون الفنّ؟ لكن من يريد فناً الآن..!
كيف اتخذت قرار المغادرة؟
نُهب مرسمي، وهو كان أيضاً البيت الذي حلمتُ طوال سنوات أن أشيّده للعيش في ريف حلب، حتّى تمكّنتُ من ذلك قبل اشتعال المنطقة بزمن قصير. لم أتمتع بما أنجزت، زدْ على ذلك أنّ لوحاتي أُحرقتْ: 22 لوحة جدارية من أعمال معرض ألف ليلة وليلة أصبحت رماداً، جبهة النصرة من قام بذلك. هم يقطنون وعائلاتهم في مرسمي الآن، هذا يعني أنّ المنزل بما بقي منه سيكون هدفاً لطائرات النظام يوماً ما. صرتُ موقناً أنّ المنزل بما يحتويه سيصبح أنقاضاً. على الرغم من ذلك بقيت في حلب.
كيف كنت تقضي وقتك؟
منزلي الصغير في أحد أحياء حلب القليلة الباقية آمنة، احتواني مرّة أخرى، على أمل أنّ ثمّة ربّما من أمل. لم أغيّر عاداتي اليوميّة كثيراً، بقيتُ أنزل أوّل المساء إلى مطعم "وانيس" في وسط المدينة. منذ أكثر من عشرين عاماً وأنا أتردّد يومياً، طالما أنّني في حلب، إلى ذلك المكان. لكن لم يعد من روّاد كثيرين هناك. تراجعت أعدادهم تدريجياً حتى بتُ أكمل جلستي محاطاً بالفراغ وعمّال المطعم الذين تتعلّق عيونهم بشاشة تلفزيون تنقل هتافات وصور دمار وأشلاء متناثرة.
لكن هل كان هناك لحظة "اللاعودة"؟
لتكتمل المشهديّة الساخرة، كان لا بدّ من الخطف. اختُطفت أثناء خروجي من حلب إلى مكان في الريف القريب إلى جانب بعض الأصدقاء. لم أكن أعرف ما السبب حين أنزلني من السيّارة عناصر مسلّحون على أحد الحواجز. أظنّهم أيضاً من جبهة النصرة، وطلبوا ممّن في السيارة العودة إلى حلب. اقتادوني إلى سيّارة أخرى كانت معهم، وطلبوا منّي، بعدما "طمّشوا" عينيّ، الدخول في صندوقها (الباكاج). رفضت، وتوسّلت إليهم أن يضعوني في المقعد الخلفي. شعرتُ بإهانة أن أُحشَر في صندوق سيّارة ولا أدري لماذا. فاستجابوا لطلبي وأمروني بعدم رفع رأسي نهائيّاً. طبعاً أذعنت.
ما كانت التُهمة؟
كانت تهمتي أننّي "شبّيح"، أعمل لصالح النظام. أنا الذي عشت حياتي كاملة من دون الاقتراب من أيّ مؤسسة تابعة للنظام. أنا الذي لم أعمل في وظيفة عامة، ولم أنتمِ إلى حزب سياسي أو حتّى أشارك في مناسبة عامة، صرت متّهماً بالتّشبيح. حين سُئلتُ عن مهنتي قلت لهم: "مدرّس رسم". خفت أن أقول "فنّان تشكيلي". في الحقيقة ضحكت بيني وبين نفسي حينها. فنّان تشكيلي، إنّها جملة غريبة لا معنى لها في ذلك الموقف. على أيّ حال، بقيت عندهم مدّة أربعة وعشرين ساعة. ربّما اقتنعوا أنّني لست شبّيحاً أو لست خطراً عليهم، فأطلقوا سراحي. أعادوني "مطمّشاً" من حيث أُخذت، ومشيت حتى قرية "تاديل". وهناك، استقبلتني عائلة سقتني الماء وساعدوني كي أتحدّث مع أقربائي عبر الهاتف. ثم وضع أحدهم في جيبي خمسمئة ليرة سورية وأوصلوني إلى ميكروباص أعادني إلى حلب. طيّبة هذه العائلة، مسحت فوراً شعوري بالإهانة، ربّما لهذا السبب أصررت على البقاء في حلب في ذلك الوقت.
هل رسمتَ في تلك الفترة؟
لم أرسم عن مرحلة الحرب في حلب بعد، أو ربّما رسمتُ الكثير من اللوحات عن الحرب، والخراب، والدم والأطراف المقطّعة المعلّقة على حبل غسيل، والأشخاص الخائفين المتجمّعين على أنفسهم عراة ومهزومين فترات طويلة قبل الحرب. لكنّ هَوْل كلّ ما رأيت وما شهدت لجمني حتّى الآن. وإنْ كان لا بدّ من توثيق الأزمة الحالية، فإنّ الفوتوغراف أصدق في التعبير عن مأسوية اللحظة. مئات الصور الفوتوغرافية المدهشة التي وُثَقت بفنّية عالية لحظات الخوف والدم فاقت بأهميتها الكثير من اللوحات التي أُنجزت، حتّى من قبل فنّانين مشهورين. لم أستسِغ في العموم ما عُرِضَ من لوحات وأعمال تحكي المأساة الحالية. هناك استعجال بارد، بعضهم يمتلك تقنية عالية لكنّ المحصلة هي أعمال باردة، الكثير منها يصلح أن يكون "بوستراً"، لا أكثر.
لماذا كل هذا الصمت من قبل البعض؟
نعم، من ناحية أخرى صَمتَ فنانون كثيرون. خذ مثلاً نذير النبعة، أحد أهمّ الأسماء السورية طيلة نصف عقد، بقي معزولاً تماماً عمّا يحدث، وكأنّ الأشياء تحدث في بوركينا فاسو! لا تصريح، لا رأي، لا إنتاج مختلف، وكأن لا شيء يحدث، لا أحد يمرّ. لا تزال نساؤه مع الرمّان والغابة في الخلفية، على حالهنّ. وليس النبعة وحده، أسماء كبيرة أخرى إمّا صمتت، أو ابتعدت إلى أماكن نائية. صمت عدد كبير من الفنانين الذين كانت أسماؤهم تملأ صالات دمشق وحلب، ولوحاتهم تباع لكبار المسؤولين، في أوروبا أو الخليج. ولا يقتصر الأمر على الفنانين التشكيليين، فهناك الروائيون، والشعراء والكتّاب الكبار، أين هم؟ أين أصواتهم من كلّ ما يجري؟ على أي حال، الواقع الحالي يفضح الفنّ ويتحدّاه.
هناك علاقة خاصّة تجمعكَ بلؤي كيالي، أخبرنا عنها.
علاقتي كانت وطيدة بلؤي كيالي. كنت ألتقيه يومياً منذ أواخر الستينيّات إلى يوم وفاته متأثّراً بحروقه في أواخر السبعينيّات. هو الذي شجّعني وساعدني كثيراً، وصحبني في جولاته المسائية إلى كباريهات حلب. وحين جئت إلى بيروت للمرّة الأولى في العام 1971 إلى صالة ربيز، كان ذلك بالنيابة عنه. التقيت حينها غسّان كنفاني، ونمتُ في منزله.