ستة معارض تشكيلية في بيروت: الوحدة والطبيعة والغيوم وأخواتهنّ

03 يوليو 2023
من أعمال ميسم هندي (غاليري مرفأ)
+ الخط -

لا يكاد يخلو المشهد الفني التشكيلي في بيروت من افتتاح معرض أو أكثر أسبوعياً. وأحياناً تشهد الأمسية ذاتها أكثر من افتتاح. تتكرر الوجوه المتنقلة بين المعارض، وتغدو مألوفة لرواد الغاليريات، خصوصاً خلال أيام الافتتاحات التي تصبح مناسبة للقاء الفنانين وأصدقائهم، ومحبي اللوحات والقطع الفنية وجامعيها. 
خلال يونيو/حزيران، شهدت غاليريات بيروت المتوزعة في أكثر من منطقة معارض كثيرة، من أبرزها ستة معارض افتتحت في ستّ صالات عرض، لستّ فنانات، لكل منهن طابع كنا قد تعرفنا إليه في معارض فنية سابقة لبعضهن، أو من خلال عمل أو أكثر في معرض جماعي.
آخر المعارض كان للفنانة آني كوركدجيان (1972) بعنوان Soeurs De Solitude أو "أخوات الوحدة" في غاليري Lebanese Talents. فاجأ الغاليري الحضور في يوم الافتتاح (22 يونيو) بعبارة Sold Out التي ألصقت على بابه؛ أي إن كل اللوحات (35 لوحة) قد بيعت قبل الافتتاح.
ترسم آني كوركدجيان بالحبر والأكريليك على ورق وقماش، والأشخاص هم أبطال لوحات معرضها كما كانوا في معارضها السابقة (آخر معرض كان العام الماضي في الغاليري نفسه). ومعظم هذه الشخصيات نسائية كما يوحي عنوان المعرض. تستمر الفنانة بعرض اضطرابات شخصياتها، وتضخيم أجسادها إلى حد كاريكاتيري أحياناً. أعمال كوركدجيان ليست للجميع، وبالتحديد ليست لمن يبحث عن طمأنينة ما من خلال النظر إلى عمل فني. من ينظر إلى أعمالها، فسيجد شخصيات تتأمل وتستعرض مخاوفها وأزماتها ورغباتها. تضع كوركدجيان المتأمل في لوحاتها أمام تحدّ سيكولوجي لمواجهة مرآته بعريٍ تام وبأطراف أصابع مروّسة تخدش الجلد وصولاً إلى الحقيقة، كأصابع شخصيات لوحاتها المروّسة.   
كان سبق هذا المعرض مباشرة، معرض آخر للفنانة فاطمة مرتضى (1980) بعنوان Memory Keepers أو "حافظات الذاكرة" الذي افتتح في 30 مايو/أيار واستمر لغاية 14 يونيو. في معرضها، تابعت مرتضى بحثها السابق في عالم النساء، فأخذها هذا البحث نحو الارتباط الوثيق بين النساء والطبيعة، والشجر تحديداً. كانت لوحاتها بورتريهات لنساء يولدن من أشجار، أو أوراق أشجار تنبت من فم امرأة، أو نرى امرأة تحمل شجرة، وأخرى بساقٍ وغصن. نساء فاطمة مرتضى لا يشبهن نساء آني كوركدجيان، ولكنهن أيضاً لا يشبهن نساء الإعلانات. غوايتهن مختلفة، غواية لا تسعى مرتضى لإبرازها، بل تحضر من دون جهد، كخاصية من خصائص أخرى تبرزها ملامح القوة فيهن. غواية مصدرها القوة، قوة الخلق. وفي بحثها، تمرست فاطمة أكثر في استخدام تقنيات كانت قد بدأت باستخدامها في أعمالها السابقة (معرضها السابق كان أيضاً العام الماضي وفي الغاليري نفسه) مثل الحياكة، ولكن في هذا المعرض، بعكس السابق، استخدمت الألوان، إضافة إلى أقلام الفحم.
وفي غاليري Tanit، افتتح في 15 يونيو معرض Study of a Cloud (دراسة سحابة)، للفنانة التشكيلية زينة عاصي (1974) ويضم أعمالاً أُنجزت بين عامي 2015 إلى 2023، وسيستمر حتى أغسطس/آب المقبل.
لوحات زينة غائمة ومزدحمة. السماء وغيومها تسيطر على ثلثي اللوحة، فيما يسيطر كولاج المدينة على الجزء الأسفل منها. المدينة تكاد تكون واحدة في كل الأعمال، الكبيرة والصغيرة، بزحمتها وأسطحها وألوان مبانيها. لا تشبه هذه المدينة مدينة لوحات زينة السابقة حيث كانت تحتل القسم الأكبر من اللوحة وليس الأسفل منه فقط. حافظت على ازدحامها ولكنها شحبت أكثر. وتركت للسماء ملعباً أوسع كي تتمكن زينة من دراستها كما فعل يوماً الفنان الإنكليزي جون كونستابل (1776 - 1837). 
فضلاً عن اللوحات (40 لوحة صغيرة و5 لوحات كبيرة)، ضم المعرض تجهيزاً، عبارة عن طاولة عليها خمسة صحون لعائلة من خمسة أفراد، وبدل الغيمة، حامت فوق الطاولة رسوم مرقّمة لـ22 ذبابة، إضافة إلى أعمال خزفية وطواطم مستعيدة آثاراً قديمة بعد نقلها من سياقها لتصبح أكثر ارتباطاً بالعالم المعاصر. قد تكون زينة عاصي من أكثر الفنانات الست حضوراً على ساحة المعارض؛ فمنذ 2008، عرضت في كل من بيروت، ودبي، والبحرين، ولندن، وباريس.

وفي يونيو أيضاً، عرضت الفنانة ديالا خضري (1979) في غاليري Art on 56th أعمال معرضها الفردي الأول بعنوان Le Corbeau et Le Regard. تلعب ديالا على الكلام، توهمنا أننا نقرأ أحد أشهر عناوين الكتب Le Corbeu et le Renard للكاتب Jean de la Fontaine ليتبين أنها تقصد عناصر وأبطال معرضها: السند والفتحة. السند هو عنصر معماري تشتهر به أبنية بيروت، وتستند إليه الشرفة التي تصل الداخل بالخارج، والفتحة التي تفتح على العالم السفلي، عالم البنى التحتية للمدينة. 
بطلة أعمال ديالا خضري هي بيروت، ببعض أبنيتها وما يميزها معمارياً، ومحالها المقفلة بأبواب معدنية، وأغطية مصارفها الصحية، وبلاط أبنيتها القديم. في لوحات الفنانة حنين لما تراه، وكأنها ترى بقايا مدينة، وتحنّ لما اختفى، لطائر اعتاد أن يحط، لباب محل اعتاد أن يكون مفتوحاً، لبناء مهجور لطالما كان مسكوناً. حتى الألوان التي استخدمتها بدت كأنها ألوان صدئة. فالزمن الذي مرّ على الأماكن مرّ على ألوانها أيضاً، وجعلها على مقربة من أن تكون بالأبيض والأسود. لم تصبح من الماضي تماماً بعد. ولكنها وكأنها على وشك.
في يونيو أيضاً، افتتح في غاليري "أجيال" معرض فانيسا جميّل Other Worlds (عوالم أخرى). لا تزال ألوان جميّل طازجة كما كانت في معرضها الذي أقيم قبل عامين في الغاليري نفسه. وكأن لا قدرة لألوانها على الانتظار، تتوق لتخرج من الأنابيب، فتُسكب فوراً على الكانفاس. ألوان تعكس بطزاجتها وانفالعها وصخبها كرنفالاً طفولياً فيه محاولة لإنكار واقع ما. إنكار مقصود، إنكار نتجت منه هذه "العوالم الأخرى" غير الواقعية. تصوّر لوحاتها البراءة المقصودة عن سبق إصرار، براءة تنعكس على هيئة منازل وشوارع تشبه منازل وشوارع رسوم كتب القراءة، حيث الحياة جميلة وملونة وخالية من الواقع الذي قد يكون لا يستحق الرسم. 
معرض آخر استمر طوال شهر يونيو، هو المعرض الفردي الأول للفنانة ميسم هندي (1986) بعنوان Unspoken (ما لا يُروى) في غاليري "مرفأ". رسمت ميسم هندي بواقعية أفراد أسرتها، أصدقائها، زوجها ومعلمتها. لوحة فردية لكل منهم في وضعية وفي مكان يدلان على ألفة تجمع بينها وبينهم، وفي ما بينهم أيضاً. كأنهم يعيشون معاً.
تصوّر أيضاً الطقوس اليومية التي تمارسها شخصيات اللوحات التي تتشابه من حيث عاديتها، فإن ما يجمعهم هو ترقبهم، وكأنهم ينتظرون حدثاً ما، بملابس النوم، بملابس البيت بلا أي حماسة. إنهم ينتظرون ما قد يحصل أو ما يعلمون أنه سيحصل، وهم جاهزون بما لديهم من طاقة متبقية تكفي فقط للانتظار. 
حضرت في هذه المعارض الستة المدينة بشكلها المتخيل والمحتضر، وحضر الأصدقاء المنتظرون، والنساء المتضامنات في وحدتهن، وحضرت الأشجار والغيوم. نساء وطبيعة ومدينة. وحدة وانتظار وزحمة. احتضار وذاكرة أبطال معارض شهر يونيو/حزيران في بيروت.

المساهمون