زقاق البلاط... تفكير في هوية بيروت

20 أكتوبر 2023
حي زقاق البلاط قبل 100 عام (تراث بيروت)
+ الخط -

في شتاء 2010، عُلِّقت على جدران قاعة قصر يونسكو في بيروت 100 صورة تحمل عنوان "ذاكرة بيروت نهاية القرن الـ19 ومطلع القرن الـ20". تعود أهمية هذه الصور لكونها جزءاً من "أكبر أرشيف مرئي في القرن التاسع عشر" جرى التقاطه في عهد السلطان عبد الحميد الثاني (1876 - 1909)؛ إذ احتوى هذا الأرشيف على أكثر من 150 مليون وثيقة مهمة للعالم ككل، وللشرق الأوسط بشكل خاص، وعدّ أنه أهم مصدر لكتابة تاريخ المنطقة.

استطاع المهندس خالد تدمري أن يُحصّل إذنًا خاصًا من السلطات التركية لينشرها في كتاب "بيروت والسلطان"، بعدما تأكد من المعلومات التي رافقتها، وأعاد تصويرها بتقنية عالية، مضيفاً إليها بعض المعلومات الجديدة.

عُرضت هذه الصور بجوار مجموعة من البطاقات البريدية والصور الفوتوغرافية التي كان قد جمعها الراحل فؤاد دباس خلال 50 عامًا، ونشر قسمًا يسيرًا منها في كتاب "بيروت ذاكرتنا". ساهمت هذه الصور بتنوع تصنيفاتها في خلق رؤية واضحة لذاكرة بصرية تحكي تاريخ مدينة بيروت، تاريخ جرى سحقه خلال العقود الثلاثة الأخيرة.

يعود اليوم موضوع حماية التراث اللبناني إلى الواجهة، وقد تبلورت معالمه بوضوح بعد الصدمة التي تعرضت لها مدينة بيروت عقب انفجار الرابع من أغسطس/ آب 2020، باعتبار أن غالبية المناطق التي تأثرت بالانفجار هي مناطق تاريخية. وكان أحدثها ندوة عقدت على مدار يومين في المعهد الألماني للأبحاث الشرقية والمدرسة البطريركية في زقاق البلاط، ومحاضرة عرضت في المركز الثقافي الألماني عن دراسة حي "غلغول".

انطلقت أسس المحاضرات من التفكير في هوية بيروت النهضويّة وأحيائها التراثية، إذ تناولت بشكل خاص البيوت والمدارس التعليمية الوطنية منها والإرسالية في حي زقاق البلاط. يحتل حي زقاق البلاط موقعًا خاصًا داخل النسيج المديني البيروتي، كونه من أول المناطق التي تعرضت للتوسع العمراني قبل عام 1840. ويتميز تاريخيًا باتصاله المباشر بوسط المدينة، وبدأت تتوضح معالم التحولات المعمارية فيه منذ الحرب الأهلية بين عامي 1975 و1990، لكونه على خط التماس الفاصل بين بيروت الشرقية والغربية أثناء الحرب.

وشملت عملية إعمار وسط المدينة بعد الحرب -التسعينيات من القرن العشرين- الأجزاء الشمالية من زقاق البلاط. كان الحفاظ على أبنية بيروت التاريخية موضع نقاش واسع منذ طرح فكرة إعادة اعمار وسط بيروت. فبيروت التاريخية قامت بداية حول مرفأ طبيعي صغير. وامتدت خارج الأسوار فوق التلال القريبة جنوبها، في منطقة زقاق البلاط.

استفحل الضغط العمراني مع غياب التنظيم وضعف إجراءات حماية التراث، والهجرات السكانية المتتالية وإشغال المساحات العامة من قبل فئات اجتماعية وسياسية معينة، والتقهقر المجتمعي بضغوطه الاقتصادية. أدت هذه العوامل مجتمعة إلى تهديد الهوية المعمارية المحلية، وإلى انتاج سلطة سياسية متآمرة ومتجاهلة للمعطى الطبوغرافي لمكان المدينة الطبيعي في قلبها. 

عُقدت الندوة يومي الخميس والجمعة 28 و29 سبتمبر/ أيلول، في صرحين تاريخيين في حي زقاق البلاط، هما: المدرسة البطريركية والمعهد الألماني للأبحاث الشرقية. وُزّع كتابان؛ أحدهما يعدُّ مرجعًا مهمًا للمختصين والباحثين في تاريخ العمارة والنسيج الحضري في العصر العثماني وحتى تسعينيات القرن العشرين في حي زقاق البلاط، بينما اختص الكتاب الآخر بتاريخ المدرسة البطريركية، إضافةً لجولة سياحية، بهدف التعرف على بعض المعالم التي تحمل رمزية تاريخية ونهضوية، في مدرسة القديس يوسف الظهور، وقصر المخيش، والمطبعة القديمة، مدرسة المعلم بطرس البستاني. وبعد الانتهاء من الجولة، استكملت المحاضرات في المعهد الألماني.

ركز العرض الموثق للأعمال الجادة على حقل التراث وأهمية إحيائه، من خلال سرد تاريخية مدينة بيروت والتحولات المعمارية والعمرانية، إلى جانب الفعاليات والأنشطة التي عمل عليها مهتمون ومختصون بالتراث، وكان آخرها العمل على تسجيل قصر حنينة في لائحة الأبنية الأكثر تهديداً في عام 2017، وما رافق ذلك من مؤتمرات ونشاطات رافقت هذا الحدث، الذي اختتم بعرض فيلم للمخرجة جوسلين صعب في المعهد الألماني، بحكم أن أحداث الفيلم توثق أجزاء من القصر نفسه.

ومن النقاط المهمة التي أثيرت أيضاً، جمع وأرشفة المبادرات وجعلها مفتوحة للجميع في موقع "مبادرة بيروت للتراث" مع التعريف بجهد العديد من الأشخاص في هذا المجال.

منذ بدايته الأولى في العشرينيات من القرن التاسع عشر وما تلاها، تحددت بنية زقاق البلاط الأساسية وتطوراته المعمارية حسب التغيرات في هيكل الملكيات.

تتميز العمارة السكنية في زقاق البلاط بتنوعها الفريد في الأساليب والأنماط؛ إذ ضم الحي مساكن للطبقات بمختلف تنوعاتها. إلا أن أهم ما ميز الحي هو القصور الكبيرة ذات الديكورات الداخلية البارزة والتي تشهد على مكانة السكان الأوائل للحي. فلا يزال قصر المخيّش، لبانيه أمين باشا، شاخصاً يحكي روعة البناء وجماليته في عمارة القرن التاسع عشر.

إلا أن حزنًا كبيرًا يلف الحي اليوم، نتيجة لغياب معظم القصور التي تداعت وأزيل بعضها الآخر، وبعضها استخدم ورشَ عمل. ومن أهم هذه القصور: قصر بشارة فرج الله حيث يعود تاريخ بنائه إلى عام 1850، وهو حالياً "مبنى المعهد الألماني للدراسات المشرقية". وقد شكلت عائلة فرج الله واحدة من أهم المجموعات البشرية التي ساهمت في إعمار وتطوير حي زقاق البلاط. وقصر حسين بيهم، وقصر بشارة الخوري، وقصر الشواف، وقصر توفيق حبري، وقصرا الجداي والفريجي، اللذان بنيا بعضهما بجوار بعض، ويقدر أن قصر جداي بني في عام 1850، وجرى هدمه في بدايات 1920 وبني مكانه "مجمع القديس جوزيف للراهبات الكاثوليك". أما قصر الفريجي، فلقد ترك عرضة للإهمال، ولم يعد له وجود اليوم.

إنّ السمة المميزة الثانية للحي في القرن التاسع عشر جسدته عمارة المدارس، باعتبار أن المرسلين حينما قدموا إلى لبنان نشطوا في تأسيس المدارس، فأنشؤوا العديد منها، ولكنها في بداية الأمر أخذت طابعاً طائفياً، ومن أهم هذه المدارس، المدرسة الوطنية لبطرس البستاني التي افتتحت في خريف عام 1863. تكمن أهميتها بأنها أقيمت على أسس فكرية راسخة، وقد وفد الطلبة إلى المدرسة الوطنية، اللاطائفية، من جميع الجهات. فكان يدرس فيها اللبناني والمصري والسوري والعراقي والتركي واليوناني والعجمي جنباً إلى جنب. وقد تولى تدريس المواد فريق من أكبر أعلام ذاك الزمن. لا يزال المبنى قائماً حتى يومنا هذا، إلا أنه في حالة كارثية، ومن المرجح أن لا أحد تقريبًا من الأشخاص الذين يعيشون في الحي يعرف شيئًا عن ماضيه النابض بالحياة.

انهارت الأسقف في بعض الأماكن. إلا أن هناك صورًا توضح جمالية الديكور الداخلي، حيث زينت الجدران الرئيسية بلوحات لمناظر طبيعية كبيرة (للأسف غير مرئية اليوم) تظهر أشجار السرو وغيرها من الأشجار والبحر ومنازل الشاطئ. هذا النمط من الزخارف وجد في المنازل الدمشقية العائدة للقرن التاسع عشر. وعلى الرغم من أن الزخارف المتأثرة بالباروك والروكوكو الأوروبي أصبحت رائجة منذ سبعينيات القرن التاسع عشر فصاعدًا، إلا أن الأمثلة عليها تكاد تخلو من عمائر بيروت.

تُضاف إلى ذلك المدرسة السورية البريطانية (حاليًا ثانوية الحريري)، والمدرسة السلطانية العثمانية، والمدرسة الإنجيلية (غير موجودة)، والجمعية السورية 1848 (غير موجودة)، ومدرسة القديس يوسف الظهور، وجمعية المقاصد الخيرية (تشرف على ترميم مجموعة مدارس تاريخية)، وكثير من المدارس التي اشتهر حي زقاق البلاط تاريخياً بوجودها في أزقته. 

مؤسف ما تتعرض له هذه المدن بكل عناصرها العمرانية والطبيعية، ففي بيروت تكاثفت الصراعات والاقتتالات التي طاولت نسيج المدينة العمراني وجردته من هويته الديمغرافية والمعمارية. تكاد لا تخلو مرحلة من هجرات جماعية، حتى إن المنازل ذات الطابع المحلي مهملة ومفرغة من أهاليها، فيتراءى لنا مستقبل هذا المكان، وهذا ما جعل الصورة هي الأساس في حياة هذه المدينة؟

أحمل كاميرتي بشكل دائم، لتوقع شبه مؤكد بات يلاحق مصير هذه العمائر. فاليوم وأنا أجول في أزقة زقاق البلاط، أمشي حاملة مخططات وصورًا لم يبقَ منها سوى بعض الأبنية، التي وإن وجدت، فهي مهجورة تعاني الإهمال. هناك تركيز ألماني ينصب على إعادة احياء هذه القلة القليلة، فمعهد دراسات الشرق الألماني يقبع في بقعة هي الأجمل في هذا الحي، قصر عائلة فرج الله، لكن لا علم لنا بمقدار الاستجابة في حي باتت تزنره الأعلام الصفراء وصور لشخصيات باتت تسيطر وتصبغ المنطقة بلون واحد.

المساهمون