تتوالى التحقيقات الصحافية التي تدحض "التحقيق" الذي نشرته صحيفة نيويورك تايمز، ولا تزال تتمسّك به، حول "العنف الجنسي" المزعوم في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حين نفذ مقاومو "القسّام"، الجناح العسكري لحركة حماس، عملية طوفان الأقصى التي أسفرت عن مقتل نحو 1200 إسرائيلي واحتجاز نحو 200 رهينة.
وأمس الاثنين، نشر موقع ذي إنترسبت الإخباري، استكمالاً لتحقيقاته السابقة حول الادعاءات نفسها، تصريحاً من المتحدث باسس كيبوتس بئيري في منطقة "غلاف غزة"، نفى فيه واحدة من قصص "الناجيات" الواردة في "تحقيق" الصحيفة الأميركية المثير للجدل.
في ديسمبر/كانون الأول الماضي، نشرت الصحيفة الأميركية "تحقيقاً" عنوانه: "صرخات بلا كلمات: هكذا استخدمت حماس العنف الجنسي سلاحاً في 7 أكتوبر". "التحقيق" أجراه 3 صحافيين هم جيفري غيتلمان وأنات شوارتز وآدم سيلا الذين "قابلوا أكثر من 150 شخصاً في مختلف أنحاء إسرائيل"، لكنه يفتقر لشهادات حقيقية لناجيات من العنف الجنسي المزعوم، إلى جانب بناء كل السردية على شهادات أفراد سبق أن أدلوا بمعلومات كاذبة مرتبطة بالعدوان الإسرائيلي المتواصل على غزة.
كانت صحيفة نيويورك تايمز قد أدانت علناً، الأسبوع الماضي، إبداء أنات شوارتز "الإعجاب" بالعديد من المنشورات المؤيدة لإسرائيل في عدوانها المتواصل على غزة، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بما في ذلك منشور على "إكس"، يؤيد تحويل القطاع إلى "مسلخ". ورأت الصحيفة أن هذه الممارسات ترقى إلى مستوى "انتهاكات غير مقبولة" لسياستها، وأعلنت أنها "تقوم حالياً بمراجعة المسألة". وقد أعربت مصادر إسرائيلية لصحيفة يديعوت أحرونوت عن قلقها من فتح صحيفة ذا نيويورك تايمز تحقيقاً بذلك، إذ اعتبرت أن خطوة كهذه "ستساعد مُنكري الحقائق على تشويه مصداقية التقارير المتعلقة بالاعتداءات الجنسية التي ترتكبها حركة حماس".
وفي حين تمسّكت الصحيفة بـ"تحقيقها" هذا، على الرغم من علامات الاستفهام الكثيرة التي طرحت حوله من الوسط الصحافي، فإنها لم تنف تقريراً للصحافية شارلوت كلاين، من مجلة فانيتي فير، كشفت فيه، الخميس الماضي، أن إدارة "نيويورك تايمز" تحاول وقف التسريبات منها، وتحديداً على خلفية ما نشر حول امتناعها عن بث حلقة بودكاست حول المزاعم نفسها. وذكرت كلاين أن الصحيفة اتخذت خطوة نادرة ببدء تحقيق في التسريب، واستجوبت "ما لا يقل عن عشرين موظفاً" حول "تسرب التفاصيل الداخلية بشأن عملية تحرير البودكاست".
ولم يشكك المتحدث باسم "نيويورك تايمز" في تقرير كلاين، واكتفى بالقول في بيان: "لن نعلق على الشؤون الداخلية. أستطيع أن أخبركم أن عمل غرفة التحرير لدينا يتطلب الثقة والتعاون، ونتوقع من جميع زملائنا الالتزام بهذه القيم"، وفقاً لما نقلته شبكة "سي أن أن"، الجمعة الماضي.
وقد تابع صحافيا "ذي إنترسبت"، جيريمي سكيهل وريان غريم، التدقيق في تقرير "نيويورك تايمز". وأكدا، أمس الاثنين، نقلاً عن متحدث باسم كيبوتس بئيري، حيث نفذ المقاومون الفلسطينيون عملية طوفان الأقصى، أن اثنين من "الضحايا" الثلاثة اللواتي ركزت عليهن "نيويورك تايمز" في تقريرها المنشور في ديسمبر، لم تتعرضا في الواقع لاعتداء جنسي.
رفْضُ المتحدث باسم كيبوتس بئيري، ميهال بايكين، تقرير "نيويورك تايمز" يقوض أكثر مصداقيته.
ركزت "نيويورك تايمز" على ثلاث ضحايا للاعتداء الجنسي المزعوم، وأوردت معلومات محددة عن سيرتهن الذاتية. إحداهن، المعروفة باسم "المرأة ذات الرداء الأسود"، كانت غال عبدوش. وقد اعترض بعض أفراد عائلتها على الادعاءات التي قدمتها الصحيفة الأميركية. أما الأخريان فهما شقيقتان مراهقتان من كيبوتس بئيري، لم تعلن الصحيفة اسميهما، لكنها ذكرت عمريهما بدقة، مما جعل من الممكن التعرف عليهما.
في تقرير "ذي إنترسبت" المنشور أمس، حدد صحافياها هوية الشقيقتين، من دون الكشف عن اسميهما، بل اكتفيا بالإشارة إليهما على أنهما الشقيقتان ي. ون. شرابي، وذلك استناداً إلى القائمة العامة للحكومة الإسرائيلية بشأن قتلى السابع من أكتوبر، بالإضافة إلى صفحة تذكارية دشنها إسرائيليون.
وقال الصحافيان إنهما حين سألا المتحدث باسم كيبوتس بئيري عن الادعاءات التي قدمتها صحيفة نيويورك تايمز، رد فوراً: "هل تقصدان الشقيقتين شرابي"؟ وأضاف: "تعرضتا لإطلاق نار، لكنهما لم تتعرضا لاعتداء جنسي". وشكك في الادعاءات المفصلة التي أطلقها مسعف القوات الخاصة الإسرائيلية الذي اعتُمد مصدراً للادعاء الذي نُشر في "نيويورك تايمز"، و"واشنطن بوست"، و"سي أن أن"، ووسائل إعلام أخرى. وأكد لـ"ذي إنترسبت": "هذا ليس صحيحاً"، في إشارة إلى ادعاءات المسعف بشأن الفتاتين، مكرراً أنهما "لم تتعرضا للاعتداء الجنسي". وعلى الرغم من ذلك، فإن المتحدثة باسم "نيويورك تايمز" أكدت لـ"ذي إنترسبت" تمسّك الصحيفة بما ورد في "التحقيق".
كما سلط صحافيا "ذي إنترسبت" الضوء على الدور البارز الذي لعبه المتحدث باسم الحكومة الإسرائيلية، إيلون ليفي، في ربط المسعف المجهول بوسائل الإعلام الدولية.
كان "ذي إنترسبت" قد تطرق سابقاً إلى تعيين أنات شوارتز من قبل "نيويورك تايمز" للتحقيق في العنف الجنسي المزعوم في السابع من أكتوبر، علماً أنها مخرجة إسرائيلية لا خبرة سابقة لديها في العمل الصحافي. عملت شوارتز تحت إشراف المراسل الحائز جائزة بوليتزر جيفري جيتلمان، إلى جانب آدم سيلا الذي جرى التعاقد معه بعد فترة وجيزة من 7 أكتوبر للعمل في الصحيفة الأميركية. وأفاد بن سميث، رئيس تحرير موقع سيمافور والكاتب السابق في "نيويورك تايمز"، الأحد الماضي، أن سيلا أوصى بشريكة عمه شوارتز، لرئيس مكتب القدس، فانضمت للتحقيق. وقالت شوارتز لراديو الجيش الإسرائيلي إنها أجرت شخصياً أكثر من 150 مقابلة من أجل هذه القصة. وفي مقابلة بثتها القناة 12 الإسرائيلية في يناير/كانون الثاني الماضي، وصفت شوارتز بالتفصيل كيف سعت للتأكد من تعرض الفتاتين للاعتداء الجنسي المزعوم. وقالت إنها علمت بالقضية لأول مرة عندما شاهدت مقابلة مع رجل عُرّف على أنه مسعف من وحدة النخبة العسكرية الإسرائيلية. ونسقت الحكومة الإسرائيلية المقابلات الإعلامية مع المسعف.
لكن التدقيق في تفاصيل مقتل الفتاتين، أظهر تناقضاً مع مزاعم المسعف التي اعتمدت عليها "نيويورك تايمز"، إن كان لكيفية العثور عليهما، أو الهيئة التي كانا عليها، أو غيرها، وذلك وفقاً لإطلالات إعلامية أجراها أفراد من عائلتهما. كما أبدى أفراد من العائلة شكوكهما حول التفاصيل التي مدتهم بها الحكومة الإسرائيلية، وقال واحد منهم لـ"ذي إنترسبت": "أي معلومات قد أقدمها هي معلومات لست واثقاً منها، وبالتالي أفضل قولها... سمعت النسخ كلها عما حصل. ما الحقيقة؟ لا أعرف".
أما فيما يخص "الضحية" الثالثة المزعومة، فقد افتتح صحافيو "نيويورك تايمز" تحقيقهم بالحديث عن فيديو ظهرت فيهه امرأة تدعى غال عبدوش، "مستلقية على ظهرها، وفستانها ممزق، وساقاها منفرجتان، ومهبلها مكشوف". وقالوا، "استناداً إلى حد كبير إلى أدلة الفيديو"، فإن "مسؤولين في الشرطة الإسرائيلية لم يذكروا أسماءهم قالوا إنهم يعتقدون" أن عبدوش تعرضت للاغتصاب. ولم تقدم الصحيفة أي دليل آخر لإثبات هذا الادعاء.
وكتب صحافيو "ذي إنترسبت"، الأربعاء الماضي، مفندين المزاعم الواردة في التحقيق: "يذكر تقرير نيويورك تايمز رسائل واتساب من عبدوش وزوجها إلى عائلتهما، لكنه لا يذكر أن بعض أفراد الأسرة يعتقدون أن هذه الرسائل المهمة جعلت ادعاءات المسؤولين الإسرائيليين غير قابلة للتصديق". وفي تقرير لاحق نُشر بعد شهر، أشارت "نيويورك تايمز" إلى أن بعض أفراد عائلة عبدوش "أنكروا هذا الاحتمال (الاغتصاب) أو شككوا فيه...".
في اليوم نفسه الذي نقل فيه "ذي إنترسبت" تصريحات المتحدث باسم كيبوتس بئيري، أورد تقرير للأمم المتحدة أن ثمة "أسباباً وجيهة للاعتقاد" بأن أعمال عنف جنسي، بينها عمليات اغتصاب، ارتُكبت خلال السابع من أكتوبر، من دون تحديد عددها.
وأضاف التقرير أن البعثة، برئاسة الممثلة الخاصة للأمم المتحدة حول العنف الجنسي خلال النزاعات براميلا باتن، جمعت "معلومات واضحة ومقنعة" عن تعرض بعض النساء للاغتصاب. وتابع التقرير: "بناء على معلومات من مصادر عدة ومستقلة، ثمة أسباب وجيهة للاعتقاد بأن أعمال عنف جنسي مرتبطة بالنزاع حصلت خلال هجوم 7 أكتوبر في مواقع عدة على مشارف غزة، بما في ذلك عمليات اغتصاب واغتصاب جماعي في ثلاثة أماكن على الأقلّ"، بينها موقع مهرجان نوفا.
وعلى الرغم من الدعوات التي وُجهت لـ"ضحايا" العنف الجنسي للإدلاء بشهاداتهن، لم تبادر أي منهن إلى ذلك.
وقبيل نشر التقرير، أعلنت إسرائيل، أمس الاثنين، استدعاء سفيرها لدى الأمم المتحدة للتشاور على خلفية ما قالت إنه محاولة من المنظمة للتغطية على ارتكاب مقاتلي "حماس" انتهاكات جنسية أثناء هجوم السابع من أكتوبر. وكتب وزير الخارجية الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، عبر منصة إكس الاثنين: "أمرت سفيرنا جلعاد إردان بالعودة إلى إسرائيل لإجراء مشاورات فورية بعد محاولة طمس" المعلومات عن "الاغتصابات الجماعية التي ارتكبتها حماس والمتعاونون معها في السابع من أكتوبر".
رداً على ذلك، قال المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، ستيفان دوجاريك، إن التقرير "أُنجز في شكل دقيق وبعناية". وأضاف: "في أي حال من الأحوال، لم يقم الأمين العام بأي خطوة لطمس هذا التقرير".