رحيل هشام رستم: مرجعية ثقافية وقلب عامر بالحب

02 يوليو 2022
هشام رستم في مسرحية "فن" (2007) للكاتبة الفرنسية ياسمينا رضا (فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -

ساهمت المرجعية الثقافية والتعليمية الجيدة، التي تلقّاها هشام رستم الراحل في 28 يونيو/حزيران 2022، في إبراز موهبته الفنية، وتكريسه وجهاً سينمائياً وتلفزيونياً مهمّاً، بفضل مشاركاته النوعية في أعمال تونسية شكّلت مُنعرجاً حاسماً في تاريخها، أو لتأديته أدواراً في أعمال أجنبية، وإنْ كانت ثانوية، لكنّها امتلكت أهمية قصوى في خدمة موضوع الفيلم، لهذا تمّت الاستعانة به، والعمل معه، في أفلامٍ جزائرية ومغربية وفرنسية وإيطالية وإنكليزية، وفي إنتاجات أخرى.

ولّدت هذه التجارب الخصبة مساراً مُضيئاً، استمر نحو نصف قرن، وأكسبته خبرة واسعة، جعلته يُفكّر في مشاريع فنية كثيرة، كممثل ومخرج وكاتب سيناريو ومنتج وموسيقي، بعد أنْ راكم تجربة مهمّة شحنته بطاقة كثيرة أراد أنْ يخلق بها بُعداً إبداعياً.

قبل أعوام قليلة، تواصل معي ليُخبرني عن كتابته سيناريو مسلسل تلفزيوني ثوري، يعكس النضال المشترك بين الشعبين الجزائري والتونسي، زمن الاستعمار الفرنسي. ولأنّه مشروع ضخم، بحسب وصفه، أراد شريكاً جزائرياً كي يتسنّى له إخراج العمل. لكنْ، رغم جهوده وحماسته، لم ير المشروع النور، بحسب معلوماتي.

ولد رستم في منطقة المرسى، في العاصمة التونسية، في 26 مايو/أيار 1947، إبّان الاحتلال الفرنسي. تلّقى دراسته الأولى في بلده، قبل سفره إلى فرنسا عام 1967، لإتمام الدراسات العليا، وحصل على شهادة دكتوراه في الآداب، وفي الوقت نفسه درس المسرح والفن في معاهدها. هناك، استأنف عشقه للتمثيل والمسرح الذي بدأه في طفولته في تونس، برعاية عبد العزيز صاحب الطابع وتشجيعه، وكان مدير مدرسة الصادقية التي كانت تُعتبر قطباً ثقافياً تعليمياً، وأهمّ مدرسة، إزاء انتشار التعليم القديم، حينها، واعتماده على المساجد والزوايا، وجامع الزيتونة تحديداً. مدرسة الصادقية اعتمدت في مناهجها على تدريس العلوم الحديثة واللغات الأجنبية، وخرّج هذا الصرح المعرفي الرائد أسماء مهمّة عدّة، ساهمت في بناء تونس الحديثة، كالمناضل والرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة.

أحبّ رستم الفنون والمسرح باكراً، بفضل صاحب الطابع، الذي كان يدير المدرسة ويُطوّر مناهجها، وهو جدّه لوالدته. بالإضافة إلى جهد الممثل والمخرج المسرحي علي بن عياد (1930 ـ 1972)، الذي اكتشفه وحبّبه بالمسرح بدرجة كبيرة، وأشركه في بعض الأعمال، ليحافظ على تلك الشعلة المتّقدة في قلبه، مُعيداً إذكاءها وتطويرها في فرنسا.

استغل هشام رستم تواجده في فرنسا، بعد إنهاء دراسته فيها، فشارك في مسرحيات وأفلام ومسلسلات، ما أكسبه مرجعية معرفية وفنية كان يحتاج إليها. لذا، عند عودته إلى تونس، وجد نفسه مؤطّراً بشكل جيد، يرتكز على معارف نظرية وتجريبية مهمّة ومتينة، فبدأ مسيرة فنية أخرى أكثر بريقاً.

يُشار إلى مُشاركته في أفلامٍ تونسية، شكّلت مُنعرجاً حاسماً في تاريخ هذا الفن، ومن الأدوار الراسخة في كلّ تونسي، وكلّ من يحترم نضال الشعوب وتوقها إلى الحرية، مشاركته في "صفايح ذهب" (1989) لنوري بوزيد، مؤدّياً فيه شخصية يوسف سلطان الذي يحمل على عاتقه هَمّ جيلٍ بأكمله. رجل يساري، يناضل من أجل غدٍ أفضل، تسود فيه الشيوعية، التي يرى أنّها السبيل الوحيد لإخراج تونس من الظلم والفوضى. لكنّه، في المقابل، يجد سياط السلطة وهراواتها وقمعها الذي لا ينتهي، فيُسجن ويُعذَّب ويُستَنْطق. صوّر بوزيد هذه المشاهد بكلّ جرأة، فأثار نقمة النظام عليه حينها، ومُنع الفيلم من العرض في تونس وبلدان عربية عدّة، بعد ضغط الحكومة التونسية. شخصية يوسف سلطان، بالنسبة إلى كثيرين، صورة واضحة للعقل المُفكّر، الذي تضطهده الأنظمة البوليسية.

عاش هشام رستم شخصية يوسف سلطان بكلّ جوارحه، خاصة بعد تأديته مشاهد جريئة، إلى درجة أنّه يُستَبعَد، حالياً، أنْ يكون هناك ممثل بجرأته، ويفعل ما فعله هو. ولأهميته، اختير "صفايح ذهب" في قائمة أفضل 100 فيلم في السينما العربية، في استفتاء الدورة الـ 10 (6 ـ 14 ديسمبر/كانون الأول 2013) لـ"مهرجان دبي السينمائي الدولي"، بحصوله على المرتبة 52 في اختيار نقّاد وصنّاع سينما شاركوا في الاستفتاء.

لم يكن "صفايح ذهب" الوحيد من ناحية الأهمية في السينما التونسية، الذي شارك فيه هشام رستم. هناك أفلام أخرى شكّلت مُنعرجاً حاسماً أيضاً، كـ"صمت القصور" (1994) لمفيدة التلاتلي الذي أدّى فيه شخصية سي البشير، وأفلام عدّة للطيّب الوحيشي، كـ"مجنون ليلى" (1989) و"عرس القمر" (1998) و"طفل الشمس" (2014). هناك أيضاً "صندوق عجب" (2002) و"زهرة حلب" (2016) لرضا الباهي، و"التلفزة جاية" (2006) للمنصف ذويب، و"همس الرمال" (2017) للناصر خمير، وغيرها.

أجنبياً، أدّى رستم أدواراً مفصلية، كمشاركته في "المريض الإنكليزي" (1996) للبريطاني أنتوني مانغيلا، الفائز بـ 9 جوائز "أوسكار"، بينها أفضل فيلم، و"الجناح أو الفخذ" (1976) للفرنسي كلود زيدي، و"الصحراء والغابة" (2001) للجنوب أفريقي غافِن هود.

له أيضاً أدوارٌ في أفلام مغربية: "كلّ ما تريده لولا" (2008) لنبيل عيوش، و"الوتر الخامس"(2011) لسلمى برقاش، وغيرهما.

لم يبرع هشام رستم في السينما فقط، بل أجاد في فنون عدّة، كالمسرح، الذي له فيه مكانة مهمّة، بالإضافة إلى الدراما، وقد كان "ورقة رابحة" في أعمال كثيرة فيها، بتأديته أدواراً لا تزال راسخة في المُشاهد التونسي إلى اليوم، بفضل جماهيرية الشاشة الصغيرة، وقُربها من الجمهور. بالإضافة إلى حبّه الكبير للموسيقى، فأسّس "مهرجان روحانيات للموسيقى الصوفية".

أحد أسباب نجاحه كممثل، حبّه الفطري للفنون، وتكوينه الجيّد، والخبرة التي اكتسبها في أعوامٍ طويلة من العمل. كما كان لملامح وجهه القوية والمميّزة دور في ذلك، إذْ له أصول تركية. كأنّ هناك استعداداً فطرياً، طوّره وصقله، وأصبح ما انتهى إليه، مع اتّحاد تلك التراكيب المادية والمعنوية، وابتكارها شخصية فنية مهمّة، أضافت الكثير للمشهد السينمائي، وساهمت في نموّه.

عاش هشام رستم حياته كما أراد. فنان رقيق، يدعو إلى السلام والحبّ والخير في كلّ ظهورٍ إعلامي له، ويتعامل بإيجابية واضحة في مسائل كثيرة. كما كان مُحبّاً للعمل الخيري، وداعما دائما له، بالمال والحضور والتوجيه. لهذا، استطاع أنْ ينقش اسمه في الضوء، ليبقى لامعاً للأجيال المقبلة.

المساهمون