ربيكا زلوتوفسكي: رسالة حبّ لأمهات لا يلدن

17 أكتوبر 2022
ليلى بين علي وراشِل: عائلة منشودة وحبّ عاصف (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

كانت تريدُ أنْ تسرد، بصريّاً، عَجز رجل على أعتاب الستينيات من عمره. رواية قرأتْها وراقَتْ لها. كان الدور مُقرّراً للممثل رشدي زمّ. لكنْ، من الفكرة الأولى هذه، لم يبقَ إلا زمّ. فالمخرجة وكاتبة السيناريو الفرنسية ربيكا زلوتوفسكي (1980) واجهت مشكلة، ليس عدم قدرتها على تصوّر مشاعر قلق رجل في موقف كهذا، فهذا لم يُشكّل لها صعوبة، كما تقول؛ بل بسبب صُوَر أخرى بدأت بإزاحة الأولى، ليتجلّى لها تدريجياً عجزها هي، كامرأة تبلغ 40 عاماً، ومن دون أطفال، فيما هي ترغب في أحدهم، وتربّي جزئياً أولاد آخرين.

في فيلمها الـ5، "أولاد الآخرين" (2022)، المشارك في المسابقة الرسمية للدورة الـ79 (13 أغسطس/آب ـ 10 سبتمبر/أيلول 2022) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي"، مسألة قليلاً ما تُعالَج في السينما الفرنسية. وإنْ يحصل هذا، تكون جزءاً من كلّ. إنّها الأمّ الأخرى، أو زوجة الأبّ، أو تلك المرأة التي لا تستطيع الإنجاب، فتعتني بأولاد الآخرين. تلك المرأة التي تُعطي من نفسها، وترتبط بعلاقة حميمية مع طفل غيرها. تقبل الإيثار، وتؤدّي دور البديلة في فترة الحاجة إليها، لتصبح خارج المعادلة ما إن تنتهي الحاجة.

أرادت زلوتوفسكي الكتابة عن هذه الشخصية، المُهمّشة في السينما، لتتطرّق عبرها إلى مواضيع أخرى حيويّة، كعلاقات الحبّ والصداقة والعائلة، وتَشارك المصير بين النساء، وما يرافق ذلك من خيبات وحزن وخيانة وفشل، لكنْ أيضاً من فرح المشاركة، ومتعة الرغبات.

يُبنى الفيلم على شخصية راشِل (فيرجيني إيفيرا)، عزباء تبلغ 40 عاماً، ولا أطفال لها. مُقبلة على الحياة، وتحبّ عائلتها وأصدقاءها وطلابها في المدرسة الثانوية، ودروس العزف على الغيتار. لا تُهمِل واجبات دينية يهودية، إرضاءً (؟) لأبيها وأختها. تُغرَم بعلي (رشدي زمّ)، الذي تخلّتْ عنه زوجته أليس (شيارا ماستروياني)، بسبب علاقة عاطفية مع آخر. تتوطّد صلة راشِل بعلي، وتتعرّف إلى ابنته ليلى (كالي فِرّيرا ـ كونسالفِس)، ذات الأعوام الـ4، التي تمضي أيامها متنقّلة بين الأبوين. راشِل تتعلّق بها، وتحيطها بالعناية، وتحبّها. لذا، تُكرّس لها وقتاً كثيراً. لكنّ محبّة أطفال الآخرين مخاطرة. إنْ كانت تستحق أنْ تُعاش، فنتائجها ربما تُخالف التوقّعات، وتُصيب بأسى، لا سيما بالنسبة إلى شخصية رقيقة وحسّاسة مثل راشِل، المندفعة في عواطفها ورغبتها في الاهتمام بالآخرين.

مواضيع شيّقة ومهمّة لم تُطرَح إلا بعد مراوحة طويلة (مدة الفيلم 100 دقيقة)، ركّزت على العلاقة الجنسية بين راشِل وعلي. إنها علاقة حميمية من البدء، لا تطوّر فيها، بل تتابعت على حالها المبدئية من توافقٍ جسديّ، مشوب بحنانٍ واهتمام، ليطغى حوار الجسد على أي حوار آخر. لا تحديد للشخصية الملتبسة لعلي، أو لمشاعره التي بقيت غامضة إزاء عشيقته، وزوجته السابقة. لا معالم واضحة عن دواخل الشخصيات الأخرى (الزوجة مثلاً). لا تدرّج في تطوّر الأحداث أيضاً، إذْ بدا تغلغل راشِل في يوميات ليلى فُجائيّاً، لا سيما دورها كمسؤولة عن الصغيرة، واصطحابها من وإلى نشاطاتها، مثلاً.

 

 

كيف اتّفقا على هذا، وهي، كعلي، شديدة الانشغال، تعمل كثيراً، ولها هوايات والتزامات مع عائلتها، وتصل دائماً متأخّرة إلى مواعيدها؟ لم يتبيّن تعلُّقها الشديد بليلى إلا بعد مرور وقت، وحين كان علي يُثير، باختصار، أمر تصرّفها مع ابنته، كانت تظهر تعليقاته كأنّها منفصلة عن الأحداث. كأنّ الكلام يُثبّت ما لا يُرى، لا سيما في البدء، بسبب تركيز الفيلم أكثر على اللقاء العاطفي للعاشقين. وحين قرّر علي التخلّي عن راشِل، والعودة إلى زوجته، كان الخبر صاعقاً عليها، وعلى المُشاهد أيضاً، لحصوله من دون تمهيد مسبق. هناك فقط لقطة واحدة، تتساءل فيها راشِل عن غياب طَال لعلي في لقاءٍ مع زوجته.

ثغرات في سيناريو (زلوتوفسكي)، لم يتعامل بعمق مع مسائل مهمّة، والإخراج لم يُحسِن الالتفاف على الفجوات، بخلق لقطات إضافية، موضحة أو ممهدة للمقبل.

تجنّبت ربيكا زلوتوفسكي ردود الفعل الانفعالية والمتوتّرة، خاصة لبطلتها. حرصت على ألا تُظهرها كضحية، مع أنّها كذلك. ضحية عدم قدرتها على حَملٍ رغبت فيه ولم يحصل، لأسبابٍ صحيّة وعمرية. ضحية تخلّي علي عنها، وابتعادها القسري عن ليلى، رغم كل ما فعلته لها.

بانت راشِل كأنّها هبطت في الوقت المناسب في حياة علي. كأنّها من أولئك الذين يتركّز دورهم على الوجود في الوقت المستقطع بين علاقتين، أي العابرون عند الضرورة، في أوقات حرجة. كأنّ دورهم محصور في مُساعدة الآخرين على إيجاد ذواتهم بين قصتي حب.

مع هذا كلّه، بدتْ قويّة ومتحكّمة، هادئة ومُبتسمة في معظم المواقف. لا تحقد، رغم ما تواجهه من خيبات ونكران. وحين تفيض عيناها بالدموع، لا تثور، بل تُعاتب بحبّ. لم تكن وحدها هكذا، إذْ حَفَل الفيلم بأجواء تُعبّر عن الحنان والحبّ والطيبة والمشاعر الإنسانية النبيلة. انسحب هذا على الجميع، حتّى على علي، وهو يغادر، مُحاولاً التبرير بما لا يُقنع، درامياً. إنْ بدا ذلك لطيف الوقع على المُشاهد، فإنّه لم يمنع إحساساً بمبالغة ما، وبمثالية طبعت مواقف الشخصيات. لا خلاف من أي نوع مع أي أحد. حتى العلاقة بين راشِل وأليس بقيت مثالية حتّى اللحظات الأخيرة، في تضامن نسائي مُبالغ به. الجميع متفهّمون ومبتسمون رغم الأنواء، ومتقبّلون مصائرهم. كلّ واحد يسامح الآخر، وإنْ أذاه الآخر، ولو من دون قصد. كأنّ الجميع في مجتمع مُصغّر فاضل، رغم كونهم في عالم لا يتوافق مع أهوائهم. في واقع مشحون بمحنٍ وشخصيات متوتّرة.

رغم السيناريو وهفواته، كان أداء فيرجيني إيفيرا في دور المُحبّة الرقيقة الحنونة، وعلي في دور المُحبّ مجهول النوايا، سنداً كبيراً للسرد. كما أنّ للمشاعر اللطيفة، التي تتبقّى من "أولاد الآخرين"، وقعاً حسناً على النفوس، ربما لأنّها تُلبّي حاجة إلى هذه الأجواء الرقيقة، التي تُقدّم رسالة حبّ إلى أمهات لا يلدن.

المساهمون