لا الفساتين ولا الأحذية التي طُبعت عليها بخط لامع كلمة Feminist، ولا عروض دار "شانيل" للأزياء عام 2015 حين خرجت العارضات في الهواء الطلق حاملات شعارات واقتباسات نسوية، نجحت في السنوات الأخيرة في التغطية على الواقع الحقيقي لصناعة الموضة في العالم: واحدة من أكثر الصناعات التصاقاً بالنساء، وفي الوقت نفسه واحدة من أكثر الصناعات ذكورية في العالم.
يقوم عالم الموضة أساساً بشكله التقليدي على تحديد النساء، وتعليبهن في قوالب تميّز بين "الجميلة" والقبيحة"، "صاحبة الجسد المثالي" و"البدينة"، "المثيرة" و"المنفّرة"، وغيرها من الثنائيات التي حولت حياة النساء خلال أكثر من قرنين إلى سباق مستمر لملاءمة معايير وهمية وضعها رجال يصممون فساتين وقمصاناً وسراويل، لعارضات بمقاييس مستحيلة.
لكن ذكورية هذا العالم تنسحب على كل الجوانب الأخرى من حياة النساء: فرصهن في الوصول إلى مراكز قيادية في دور الأزياء (وفق دراسة نشرت عام 2015، من أصل خمسين دار أميركية، 7 فقط تديرها نساء)، وتدمير حياة مئات عارضات الأزياء اللواتي قتلن بسبب سوء التغذية والأنوريكسيا، في محاولة للحفاظ على قوامهنّ، والاتجار بالمراهقات وإجبارهن على العمل في بيع الجنس رغماً عنهنّ، والتحرش الجنسي المنتشر وأبطاله مصورون، ووكلاء، وأصحاب دور أزياء، ومصممون.
قصص مأساوية تخرج من مصانع الملابس في الدول الآسيوية
هذا ما نراه، وهذا ما نعرفه، وبتنا نقرأ عنه في الصحف والمواقع، بعد انتفاضة في عالم الأزياء أدت إلى اهتزاز بعض المعايير، كان أبرزها ظهور عارضات بوزن زائد، وتصدرهن لأغلفة مجلات وعروض عدة. لكن الانتفاضة النسوية هذه، حالها كحال انتفاضة نساء هوليوود في وجه المنتج هارفي وينستين عام 2017، بدت بيضاء تماماً. العارضات صاحبات الوزن الزائد الأكثر شهرة من صاحبات البشرة البيضاء، حتى محاولة تمثيل العابرين والعابرات جنسياً تكون من خلال عارضات/ين من ذوي البشرة البيضاء.
خلف النسوية ناصعة البياض هذه، طبقية فاقعة وبديهية لدرجة لا تكاد تُرى. عاملات في هذه الصناعة لا تُذكر أسماؤهنّ إلا في تقارير سنوية بليدة لمنظمات حقوق الإنسان: العاملات الآسيويات في مصانع الملابس العالمية. في مثل هذا اليوم، اليوم العالمي للمرأة، في 8 مارس/ آذار 1997، وبعد ليالٍ متواصلة من العمل لساعات طويلة، توفيت الشابة الفيليبينية كارميليتا ألونزو من الإجهاد، والالتهاب الرئوي. كانت كارميليتا تعمل في مصنع VT Fashion الذي يصنّع الملابس الجاهزة لمتاجر عالمية مثل "غاب"، و"ليز كليبون"، وتتقاضى 5 دولارات يومياً، بينما تضطر إلى المشي ساعتين ذهاباً وإياباً للوصول إلى عملها ومنه. بعدها بـ17 عاماً، في 24 يوليو/ تموز 2014، أغمي على نوف باس (35 عاماً) داخل مصنع للملابس في كمبوديا، لتموت بعدها بساعات قليلة في المستشفى. كانت باس تعمل في مصنع Sangwoo الكمبودي، الذي يخيط ملابس ماركات عالمية بينها أيضاً "غاب"، و"أولد نيفي". في يناير/ كانون الثاني 2021، أي قبل شهرين، عثر على جثة شابة هندية في العشرين من عمرها، مقتولة قرب منزلها. الشابة تعمل في معمل في ولاية تاميل نادو، يصنّع ملابس لسلسلة متاجر "إتش أند أم"السويدية العالمية. وقد أثارت وفاتها غضب زميلاتها في المصنع بعدما قلنَ إنهن اشتكين من التحرشات الجنسية المتكررة بحقهن، وتجاهل الإدارة لها، كاشفات عن أن زميلتهن قُتلت على يد أحد المتحرشين في المعمل.
عشرات القصص المتشابهة تخرج يومياً من مصانع الملابس والأحذية الجاهزة في الدول الآسيوية الفقيرة، لنساء يمتن أو يغتصبن أو يعذّبن على أيدي المشرفين على أماكن العمل تلك، بينما تكتفي الشركات العالمية باستنكار ما يحصل، مؤكدة أنها ستعلّق عملها مع هذا المصنع أو ذاك، إن لم تتغيّر شروط العمل. لكن ذلك لا يحصل. بل على العكس تماماً، وجدت شركات مثل "غاب"، و"إتش أند أم"، و"نايكي"، و"ليفايس" في هذه المصانع خلاصاً كبيراً، فبدأت منذ منتصف التسعينيات بإقفال مصانعها في الولايات المتحدة، وكندا، مسرّحة آلاف العمال، للتعاقد سنوياً مع مصانع في الدول النامية.
تدرك شركات الموضة هذه ظروف العمل الوحشية في المصانع، وتدرك أن الأغلبية الساحقة من العمال هي من النساء اللواتي يتقاضين أحياناً راتباً أقل من الحدّ الأدنى للأجور، وتدرك أن تلك المصانع تطرد النساء ما إن تكتشف حملهنّ، ومع ذلك تواصل التعاون معها. فالطريق بين صناعة هذه الملابس الجاهزة وبيعها لأبناء الطبقة الوسطى والغنية حول العالم، معبّد بمئات الجثث لنساء قتلهنّ العمل في خياطة الملابس.
تُستبعد هؤلاء النساء من سردية النضال في سبيل تأمين ظروف عمل أفضل في عالم صناعة الأزياء. لا تذكر أسماؤهنّ إطلاقاً، بل يبقين مستترات داخل جدران المناطق الصناعية التي أقيمت على عجل في الفيليبين والهند وبنغلادش والصين وسريلانكا لتجذب الشركات الأميركية والأوروبية. تموت النساء من التعب وهنّ يخطن ملابس كتب عليها Girl power كما كشفت صحيفة "ذا غارديان" البريطانية عام 2019، حين تبيّن أن تيشرتات لمنظمة تعمل على تمكين النساء في بريطانيا، خيطت في مصنع في بنغلادش تعاني فيها النساء من سوء المعاملة والإجهاد، أو ما بات يُعرَف بـ"العبودية الصناعية".
بشكل عام، لا تناسب صورة هؤلاء السيدات، حكايات التغيير التي تصدّرها لنا شركات الملابس ودور الأزياء. فبينما تتجه هذه الأخيرة لترسيخ النسوية كبراند أو ماركة، تعتمدها للترويج لصورتها وتصديرها وبيعها للنساء/ المشتريات، يتواصل سقوط العاملات الفقيرات السمراوات فوق ماكينات الخياطة في جانب آخر من العالم.