بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر) عقوداً من حياته مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفنّ. تنشر "العربي الجديد" كل يوم اثنين مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين والصحافيين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءات مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس، وغيرها من العواصم.
كمثل وجهين لعملة واحدة كانت الأفراح والأحزان في حياة الصحافي اللبناني الراحل غسان تويني. كانت الأفراح سمة حياته المهنية، وكانت الأحزان كلما فارقت حياته العائلية عادت إليها: توفيت زوجته الشاعرة نادية حمادة تويني سنة 1983 وكانت على أعتاب الثامنة والأربعين من عمرها، بعد معاناة طويلة من داء السرطان. قبلها توفيت ابنتهما الوحيدة نائلة وهي في السابعة من عمرها بالمرض الخبيث ذاته. ولده الأصغر مكرم توفي بحادثة سيارة في باريس سنة 1987 وكان في السابعة والعشرين. ابنه البكر جبران، اغتيل سنة 2005 وكانت الصدمة الأقوى والأخيرة في حياة غسان تويني. وبرغم تعاليه على الأحزان ودعوته إلى الغفران يوم جنازة ولده جبران، كان واضحاً على وجهه أنه يكابد الأمرّين لكي يبقى على تماسكه. قلّت همّته في السنوات السبع التي عاشها من بعد. هو الوحيد في عائلته الذي عاش طويلاً ومات عن عمر ناهز السادسة والثمانين. أبوه جبران أندراوس تويني مات وعمره 57 سنة، مات في سانتياغو، عاصمة تشيلي، وكان سفير لبنان لديها ولدى الأرجنتين.
عاد الشاب غسان تويني، ابن الحادية والعشرين، إلى بيروت سنة 1947 آتياً من الولايات المتحدة وكان ينوي مواصلة الدراسة فيها بعد نيله درجة الماجستير في العلوم السياسية من جامعة هارفارد. عاد ليتسلم إدارة جريدة "النهار" التي أسسها والده سنة 1933. وبدأ مشواره مع الصحافة، ولسوف يستمر مكلّلاً بالنجاح حتى آخر عهده بها. من حسن حظه أن رئيس التحرير آنذاك كان الصحافي المخضرم لويس الحاج، الذي اعتنى برعايته مهنياً.
عندما احترف غسان تويني الصحافة تولّى منصب مدير الجريدة البيروتية، لكنه لم يكتفِ بذلك، بل كان له الرأي الأول في ما يُنشر وما لا يُنشَر، وفي المانشيت. وهو الذي صاغ عنوان الجريدة الرئيسي غداة اغتيال ابنه "جبران لم يمت، والنهار مستمرة". اهتم بتطوير الجريدة في مرحلة تفوّق صحف أخرى وبدأت "النهار" تنافس "الحياة" (كامل مروّة) و"الجريدة" (جورج نقاش/ رشدي المعلوف) و"الديار" (حنا غصن). وعندما أخذت مكانها بين صحف الصدارة انتقلت مكاتبها من سوق الطويلة إلى شارع الحمرا بجوار مصرف لبنان ومقابل وزارة الإعلام. ثم أصبحت الجريدة الأولى في المبيعات وفي التأثير السياسي. وكان غسان تويني قد ضم إليها كوكبة من الشباب الموهوبين أمثال ميشال أبو جودة، أفضل كاتب افتتاحية يومية، وفرنسوا عقل مدير التحرير الذي لا يتعب، وأنسي الحاج وشوقي أبو شقرا ورسام الكاريكاتور بيار صادق.
كان في شبابه معجباً بثلاثة: والده جبران تويني وأستاذه في الجامعة شارل مالك، وأنطون سعادة مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي. على غرار أبيه امتهن الصحافة وأصبح سفيراً ونائباً في البرلمان ووزيراً. وعلى غرار أستاذه درس الفلسفة في الجامعة الأميركية في بيروت، وأكمل الدراسة العليا في جامعة هارفارد. ومثله كان سفيراً للبنان في الولايات المتحدة وفي الأمم المتحدة. شارل مالك كان أحد الذين صاغوا شرعة حقوق الإنسان، وغسان تويني نجح في جعل الأمم المتحدة تصدر القرار 425 الذي بموجبه سحبت إسرائيل قواتها من لبنان سنة 2000. وكان شارل مالك وزيراً للخارجية في عهد الرئيس كميل شمعون (1952-1958) وأصبح غسان تويني وزيراً للإعلام والتربية ثم وزيراً للعمل والسياحة في عهد الرئيس سليمان فرنجية (1970-1976).
سُجن بعدما نشر في "النهار" القرارات السرية للقمة العربية
أما علاقته بأنطون سعادة فبدأت في منتصف الأربعينات وكان غسان تويني في مرحلة الدراسة الجامعية. وعلى غرار مثاله الأعلى خاض ميدان العمل السياسي. انضم إلى حزبه لكنه انسحب منه سنة 1947 بعد طرد صديقه الشاعر يوسف الخال. وعاد إلى الحزب بعد إعدام الزعيم سنة 1949، ثم انسحب مجدداً في منتصف الخمسينيات، من دون خصومة. لم يؤسس غسان تويني حزباً، لكنه انتخب نائباً عن محافظة جبل لبنان سنة 1951، ثم عن مدينة بيروت سنة 1953. لكنه فشل في انتخابات 1957، وفي عام 1972 حين ترشّح في قضاء عاليه. ولو فاز في المحاولة الأخيرة لكان شارك في انتخابات عدة رؤساء: إلياس سركيس، بشير ثم أمين الجميل، إلياس الهراوي. بيد أنه انتُخب مجدداً نائباً عن بيروت سنة 2006 خلفاً لابنه جبران. ولم يترشّح في الدورة التالية.
اشتهر غسان تويني في الصحافة وفي العمل السياسي بالمعارضة، مع حرصه على ترديد "صحيفتي مُعارِضة، لكنها ليست جريدة المعارَضة". سنة 1951 انضم إلى الجبهة الاشتراكية الوطنية بقيادة كمال جنبلاط. وهي جبهة المعارضة التي ضمت قلّة من النواب، لكنها كانت منهجية وفاعلة أدت إلى إجبار رئيس الجمهورية بشارة الخوري على الاستقالة ونجحت في فرض مرشحها للرئاسة كميل شمعون. ولعدة مرات، كان غسان تويني يبدأ صديقاً للعهد وينتهي على خصومة معه. في عهد الرئيس شمعون كان من أشد أنصاره، وانتُخب نائباً لرئيس مجلس النواب عادل عسيران، لكنه مع بداية الانقسامات سنة 1958، انضم إلى هنري فرعون وتقي الدين الصلح ويوسف سالم فيما سُمّي "الكتلة الثالثة" التي وقفت على الحياد بين الرئيس شمعون وخصومه بقيادة كمال جنبلاط وصائب سلام. وبدأ غسان تويني مؤيداً للرئيس فؤاد شهاب ثم عارضه بعد اعتقالات عناصر الحزب السوري القومي الاجتماعي إثر محاولة انقلاب فاشلة. واشتدت معارضة غسان تويني لجهاز المخابرات بالجيش اللبناني (المكتب التاني) في عهد الرئيس شارل حلو، وناصرت جريدة "النهار" بقوة جبهة "الحلف الثلاثي" المعارضة التي حققت فوزاً بارزاً في الانتخابات النيابية سنة 1968.
عرفت غسان تويني سنة 1967، إذ أول عهدي بالصحافة كان مقالة نشرتها في "ملحق النهار". وحين قمتُ بإعداد برنامج "سهرة مع الماضي" الذي قدمته المذيعة المصرية اللامعة ليلى رستم في التلفزيون اللبناني، استضفت غسان تويني في إحدى الحلقات ليحكي سيرة حياته. وما زلتُ أذكر بعض الطرائف وكان قد رواها لي وحرصتُ على ورودها في السيناريو. قال: إن أول تحقيق صحافي كتبه لم يُنشر، وكان عن زراعة المخدرات في سهل البقاع وصراع العشائر مع الجيش اللبناني. وأنه في مطلع شبابه نشر قصائد بالفرنسية في مجلة "لا ريفو دو ليبان" ثم في صحيفة "لو جور" وكان شارل حلو رئيس التحرير أيامها، وكان يشطب نصف القصيدة! وكان من ضيوف الحلقة لويس الحاج، الذي عرفه منذ طفولته، وروى عنه أنه أتى إلى الجريدة أيام والده وهو في الرابعة عشرة من عمره، ومعه مقالة. وقد نبهه إلى أن لغته العربية ضعيفة في الصياغة، فأجابه الفتى "لأني أفكر بالفرنسية وأكتب بالعربية"، فنصحه أن يقلع عن ذلك. أما رشدي المعلوف (أبو أمين) وكان أستاذه في مادة الأدب العربي فذكر أنه كان تلميذاً ذكياً وكسولاً في الوقت نفسه. واعتذر منه عادل عسيران، رئيس البرلمان أيام كان غسان تويني نائبه، لأنه لم يمرض ولم يتغيّب مرة فلم تُتح الفرصة لغسان أن يترأس المجلس!
منع الرئيس سليمان فرنجية ظهوره في برنامج تلفزيوني
وعندما اختتمت حلقات "سهرة مع الماضي" بعد سنتين، أعددتُ برنامجاً جديداً بعنوان "حديث الناس" لتقدمه ليلى رستم. كان البرنامج عبارة عن ريبورتاجات مصورة عن أهم أحداث الأسبوع، مع ضيف في الاستوديو للتحاور بشأنها. من بين هذه المواد مقابلة مع خالد جمال عبد الناصر، نجل الرئيس المصري الراحل، ومقابلتان مع الشاعرين نزار قباني وصالح جودت إثر خلاف حاد بينهما. اتصلتُ بغسان تويني ووافق على أن يكون ضيف الحلقة الأولى. كان ذلك في مطلع أكتوبر/ تشرين الأول/ 1971، بعد استقالته من وزارة الإعلام. حضر غسان تويني إلى الاستوديو في الثامنة والنصف قبل بدء البث بنصف ساعة. وكان مع ليلى رستم يراجع الأسئلة. جاءني منير طقشي، مدير التلفزيون، وقال لي "عندنا مشكلة. اتصلوا بي من القصر الجمهوري وأخبروني أن الرئيس سليمان فرنجية لا يريد أن يتحدث غسان في التلفزيون". دعاه إلى مكتبه لشرب فنجان قهوة ريثما يبدأ البث. وحين أخبره بقرار الرئاسة، اتصل غسان تويني تلفونياً بالقصر وطلب التحدث إلى الرئيس، فقيل له إنه خرج! (وليس من عادة الرئيس أن يخرج) وطلب التحدث إلى مدير عام الرئاسة فسمع الجواب نفسه. وأدرك خلفية الأمر، وتوَجّه إلى جريدته ونشر تفاصيل منعه من الحديث التلفزيوني في الصفحة الأولى من عدد اليوم التالي (من دون ذكر تفصيل المكالمات الهاتفية).
كان غسان تويني من أقوى مؤيدي انتخاب سليمان فرنجية رئيساً وبدأ عهده وزيراً، ثم وقع الخلاف. ونال الصحافي عقاباً أقسى خريف 1973 عندما نشر في "النهار" القرارات السرية لمؤتمر القمة العربية الذي عقد في الجزائر آنذاك. كان فؤاد نفاع، وزير الخارجية، أحضر الملف معه وعليه كلمة "سرّي" إلى لجنة الشؤون الخارجية في المجلس النيابي لإطلاع أعضائها على القرارات السرية. وغادر القاعة ونسي الملف. أسرع إميل خوري الصحافي في "النهار" بحمله إلى جريدته. ولما اكتشف الوزير هفوته، سارع رئيس الحكومة تقي الدين الصلح إلى غسان تويني ورجاه أن يرد الملف. أعطاه إياه، لكنه كان قد صوّر نسخة طبق الأصل منه، هي التي نشرت في الصفحة الأولى في اليوم التالي "النهار تنفرد بنشر....". الأمر الذي سبب إحراجاً كبيراً للحكومة اللبنانية. وكان العقاب سجن غسان تويني!
ولم تكن المرة الأولى التي يحلّ فيها غسان تويني ضيفاً في زنزانة السجن. كانت الأولى سنة 1949 عندما نشر مقالة احتجاجية عنيفة عقب إعدام الزعيم أنطون سعادة بعنوان "سعادة، المجرم الشهيد". ومرة ثانية في عهد الرئيس بشارة الخوري عندما كتب مقالة بعنوان "بدنا ناكل جوعانين" إثر تظاهرة شعبية في بيروت احتجاجا على احتكار الطحين وارتفاع أسعار الخبز. وفي المحصّلة أمضى 8 أشهر في السجن على فترات عقاباً على مقالات.
عندما كبرت مؤسسة "النهار" وأصبحت الشركة المساهمة "التعاونية الصحافية"، ضمّ غسان تويني إليها جريدة "لو جور" الفرنسية سنة 1965، ثم جريدة "الأوريان" الفرنسية الأخرى سنة 1970، واندمجت الجريدتان بعنوان "لوريان- لو جور"، وأصبحت مكاتبها في مبنى "النهار".
وكان غسان تويني حريصاً على حضوره في المجال الثقافي أيضا. أصدر كتباً من تأليفه باللغة العربية وبالفرنسية. بعضها من مقالاته وبعضها من محفوظاته في العمل الدبلوماسي، وبعضها تحليل للواقع السياسي اللبناني والعربي. وفي منتصف الستينيات أسس "دار النهار للنشر". ودعم مجلة "شعر" الحداثية، وأفرد لها مكتباً في مبنى "النهار". وساند الحركة المسرحية ومعارض الرسامين، وتولّى رئاسة متحف سرسق للفنون التشكيلية. وكان عضواً في مجلس أمناء الجامعة الأميركية في بيروت، وترأس لفترة جامعة البلمند.
عوّض الفراغ العاطفي العائلي بزيجة ناجحة مع السيدة شادية الخازن، دامت ستة عشر عاماً حتى رحيله عن دنيانا. وهي توفيت قبل انتهاء العام 2022 بأيام. وكان في حياته قد نجح في شغل الناس في ميادين الصحافة والسياسة. لكنه لم يصبح شاعراً ولا مُغنّياً هو الذي كان في شبابه من هواة الموسيقى، وعضواً في جوقة غناء.