استمع إلى الملخص
- **استخدام الدمى والمجسمات:** تستخدم المخرجة الدمى والمجسمات المصغرة لإقناع المتورطين في الحرب بالمشاركة في الفيلم، مما يساعد في استعادة ذكريات الحرب بشكل بصري وملموس.
- **الاستنتاجات والمشاهد الختامية:** الفيلم يكشف عن واقع بلد عالق في دوامة الحروب، ويبرز مشهد خروج فداء في تظاهرة ضد الفساد، مع تعبير رجلين عن ندمهما على تورطهما في الحرب.
تستعير المخرجة الفرنسية سيلفي بايّو (1967) ذاكرة فداء بزري، لتراجع سنوات الحرب الأهلية، التي عاشتها اللبنانية في طفولتها. في لحظة شبابها، تريد طيّ ذكرياتها المشوّشة عنها جانباً، والمضي في عيش بقية حياتها. تدرك بزري (تشارك المخرجةَ في كتابة السيناريو) أنّ هذا لن يتمّ من دون مراجعة الماضي، ومعرفة أسباب عيش سنوات من طفولتها في خوف وقلق، يستدعيان للتخلّص من آثارهما المؤلمة معرفة المتسبّبين بهما، والسؤال عمّا إذا توصّل بعضهم، بعد أعوام على انتهاء تلك المرحلة، إلى قناعاتها نفسها: ضرورة طيّ صفحة الماضي الأسود، بمراجعة صادقة ومصالحة حقيقية مع الذات قبل الآخر.
ليس سهلاً إقناع من تورّط في حرب أهلية، وربما ارتكب فيها القتل، على الظهور في فيلم وثائقي. فكرة تبديد مخاوفهم من المشاركة تأتي بجرّهم إلى "لعبة" تحريك دمى شُكِّلت لتحاكي تاريخاً، وتُجسّد مواقع وأمكنة شهدت قتالاً عنيفاً بين الطرفين المتحاربين، انقسمت بسببه بيروت إلى شرقية وغربية.
ولأنّ المُجسّمات المُصغّرة تحكي جانباً من تجربة الطفلة التي كانتها بزري حينها، يغدو السؤال عمن يقف وراء تلك الفكرة، المخرجة أم البطلة، ليس مهماً، لأنّ "خطّ التماس" (2024)، الفائز بجائزتيّ "موبي" لأول فيلم طويل واعد، و"السينما والشباب الأولى" في الدورة 77 (7 ـ 17 أغسطس/آب 2024) لـ"مهرجان لوكارنو السينمائي الدولي"، مبنيٌّ على فكرة المشاركة، واستعارة أفضل ما لدى كلّ طرف لبلوغ نتيجة نهائية واحدة: وثائقيّ يستعيد سنوات الحرب الأهلية اللبنانية، ويراجعها نقدياً عبر ضحاياها والمتورّطين فيها.
في الدمية، التي تُمثّل وجودها طفلةً صغيرة، كانت فداء، أوائل تلك الثمانينيات، تذهب يومياً إلى مدرستها، حاملة كتبها ودفاترها في حقيبة حمراء اللون، تحملها على ظهرها. ترى الدمية أهوال الحرب بعينيها، ومع ذلك تجهل طويلاً أسبابها. تقترب من الموت أول مرة حين ترى رجلاً مُمدّداً على الأرض، والدم يحيط جثته. تتذكّر وصف جدّتها ما كان يجري حينها: "نار جهنم وانفتحت". إلى مناطق غربيّ بيروت، تذهب لتسأل سكّانا فيها عن أماكن جرت فيها الأحداث، وعمّا إذا عاشوها بأنفسهم.
بين مقابلة متورّطين فيها، وعرض مُجسّمات صغيرة (دمى) أمامهم لتحديد الأمكنة التي كانوا يقاتلون فيها، ووجودها الآني المُصوّر للتوّ، يتحرّك المسار الدرامي للوثائقيّ، ويستكمل متنه الحكائي بتسجيلات أرشيفية، تشكّل صورة تاريخية تقريبية لسنوات، شهد لبنان فيها انقساماً سياسياً ببعدٍ طائفيّ، كلّ طرف فيه يُحيل سبب ما يجري إلى الطرف الآخر، ويبرّر سلوكه بقناعات مُغذّاة بمفاهيم إيديولوجية ومسوّغات أخلاقية، عنوانها حماية العائلة والمنطقة، والدفاع عن النفس من جهة تريد السيطرة والاستحواذ على المكان الذي يقيمون فيه، وإبادة سكانه.
بعد نحو ثلاثة عقود على نهاية الحرب الأهلية (1975 ـ 1990)، لا يزال المتورّطون فيها يكرّرون العبارات نفسها، ويبرّرون تورّطهم فيها بالذرائع نفسها التي تحصّنوا بها عند دخولهم إياها، مدفوعين بقوة الإيمان بعدالتها. مقابل قناعاتهم المستندة إلى فكرة توحّش الآخر/العدو، تحتفظ فداء الطفلة بمشهد لم يفارق ذاكرتها، يوم واجهت سلاح قنّاص من منطقتها يصوّب نحوها. تنظر في عينيه، وينظر هو نحوها. تتجمّد أوصالها، ولا تنطق بكلمة.
لم تفارق تلك النظرة المخيفة دواخلها إلى الآن. تحملها أينما تذهب، وتطرحها بصيغة واضحة أمام من جاء ليُبيّن لها أنّ دوافعه للمشاركة في الحرب كانت لحماية سكّان منطقته وأبناء طائفته. خوفها من "حُماتها" في الطفولة يسفّه مفهوم "العدو"، ويدفعها إلى المطالبة بإعادة النظر فيه. تطرحه على من يقبل الكلام عن تجربته في الحرب أمامها، وأمام المُجسّمات التي يتعاملون معها بعفويةٍ، تُسهّل وتُمهّد بوحاً يظلّ مكتوماً في الأنفس عقوداً.
تُلقي فداء طفولتها، المُجسَّدة بدمية حائرة وخائفة مما يجري حولها، أمام مقاتلين من الأطراف كلّها. كلامهم يُجلي صعوبة تخلّصهم من قناعاتهم الأولى. هذا يحمل في طياته استعداداً للتورّط في حروب جديدة. في مقابلات، يتّضح أنّ هذا يجري فعلياً. مقاتل من جنوبيّ لبنان، مُعبّأ بقناعات طائفية وسياسية، لا يتردّد في إعلان مشاركته في الحرب السورية بالقناعات نفسها التي كان يعرضها الماروني المسيحي أو اليساري المسلم في بداية الحرب الأهلية.
شهادات حيّة تفضح واقع بلد عالق في الحروب، ما إنْ تنتهي واحدة حتى تظهر أخرى، والذرائع جاهزة دائماً لخوضها. تسجّل فداء الانتقالات السهلة للمتحاربين من موقع إلى آخر بدوافع سياسية ومنافع يجنيها تُجّار حروب، قادرون على تحريك جماهيرهم بإشاعة الخوف في قلوبهم من "آخر" يحدّدونه وفق أجنداتهم السياسية.
هناك إحساسُ طاغ لدى المشاركين في الوثائقي من أنّ حماستهم الأولى متأتية من تحريض وتأليب ضد آخرين يجهلونهم، لكنْ صُوِّر لهم أنّ استمرار بقائهم مرهونٌ بتدميرهم.
بذكاء، يمرّ "خط التماس" في مراحل تاريخية طويلة، من دون إضاعة بوصلته المرشدة إليه في بحثه عن الكامن في المشهد العام، من ميل إلى خوض حروب جديدة يسهل الترويج لها، طالما أنّ هناك استعداداً مخفيّاً لها. يراجع، في 150 دقيقة، ما جرى في الحرب الأهلية، ويستنتج أنّ المشهد السبعيني لها يُقارب الثمانيني بجوهره، والأخير استمرار لما يُروّج له اليوم في حرب جارية مع عدو خارجي. حرب يراد التستر بها على أهداف سياسية وطائفية أكبر من سابقاتها، يُجيز تحقيقُها تدميراً للبلد وأهله.
مشهد خروج فداء في تظاهرة احتجاجية ضد فساد حكام بلدها، وهي تضع علم وطنها على كتفها، كأنّها به تستبدل حقيبتها المدرسية التي تحملها يوم نشبت حرب أشاعت الخوف فيها، وخسرت والدها، وتركت الخسارة حزناً عميقاً في أفراد عائلتها. اليوم، بوعي امرأة مشاركة في كتابة نصّ سينمائي مشحون بالعواطف، ومشغول بوسائل تعبير بصرية عدّة ومختلفة الأغراض، تريد التخلّص من تراكمات ذاكرتها المُوجعة.
في مشهد ختامي، يجمعها برجلين تتناقض مواقف أحدهما مع مواقف الآخر، في زمن لم يكن يودّ أحدهما قتل الآخر، يعبّران أمامها عن ندمهما على تورّطهما في حرب لا معنى لها اليوم بالنسبة إليهما. لكنّ المفارقة في مشهد "المصالحة مع الذات"، أنّ أحدهما لا يتّفق مع قرارها بحرق الصُور الفوتوغرافية التي تحملها معها، وتسأل عن أشخاص فيها، ومدى تورّطهم في الحرب المخيفة التي عاشتها، ولا تريدها أنْ تعود ثانية.
بين الأمنيات والرغبة الصادقة في التصالح مع الماضي، هناك ما يشي في الوثائقي بهشاشة ديمومتها، أو القبول بها، طالما أنّ هناك في لبنان اليوم من يريد خوض حرب جديدة للذرائع القديمة نفسها، التي تحصّن بها مُشعلو الحروب القديمة.