تحظى تظاهرات العاملين في الحقل الزراعي، التي تشهدها فرنسا منذ أكثر من أسبوع، بتغطية إعلامية ندرَ أن حظيت بها الحراكات الاجتماعية التي عرفتها البلاد في السنوات القليلة الماضية.
ليس الحديث فقط عن تحوّل القضية إلى الموضوع الرئيسي لدى الإعلام على حساب العدوان الإسرائيلي على غزّة وحرب روسيا على أوكرانيا، بل عن كيفية تعاطي وسائل الإعلام معها. كيفيةٌ تبدو على النقيض ممّا فعلتْه، على سبيل المثال، خلال تغطيتها آخِر حراك ضخم شهدته البلاد، حين انطلقت التظاهرات بعد مقتل الشاب نايل مرزوق على يد الشرطة الفرنسية نهاية يونيو/ حزيران 2023.
وتُبدي أغلب الصحف والقنوات التلفزيونية الفرنسية تعاطفاً مع "غضب المزارعين"، فتضيء بشكل أساسي على سرديّتهم حول الحراك، وتشرح مَطالبهم وأسباب قطعهم الطرقات بين المدن، كما تُظهر وقوف قسمٍ واسع من الفرنسيين إلى جانبهم، هُم "الذين يُطعموننا"، وهي عبارة لا تغيب منذ أيام عن محطّات الأخبار.
للوهلة الأولى، يبدو هذا التعاطف أمراً طبيعياً في بلد تمتلك فيه الزراعة صورةً مثالية في المخيال الجمعي. وهي مكانةٌ عزّزها، أولاً، الدور الأساسي الذي لعبه المزارعون في تجنُّب فرنسا أسوأ سيناريوهات جائحة كوفيد-19، وثانياً، تبنّي الحكومة خِطاباً سيادياً يشكّل الاكتفاء الغذائي جزءاً مهمّاً منه.
غير أن سياسة "الكَيل بمكيالين"، مقارنةً بتغطية الإعلام لحراكات أُخرى، راحت تتّضح مع وقوع أول الصدامات في الأيام الأخيرة، والتي اختارت أغلب القنوات والصحف عدم التفصيل فيها، بشكلٍ مفارِق للعادة، إذ اكتفت بالحديث عن "حَرْق" أو "احتراق" هذا المبنى الحكومي أو ذاك، من دون اللجوء إلى تسمياتٍ مثل "أعمال شغب" و"مخرّبين" التي سادت تغطيتها للتظاهرات التي أعقبت مقتل الفتى الفرنسي ذي الأصول العربية.
كما أن دعوة بعض الشخصيات النقابية، التي تمثّل المزارعين، إلى "حصار" باريس، لم تُثِر حفيظة قنوات الأخبار، ذات التوجّه اليميني أو اليميني المتطرّف بشكل عام، والتي كانت لتخصّص ساعات وأياماً من "التحليلات" و"التحقيقات" لو كانت هذه العبارة قد وردت على لسان متظاهرين من أجل العدالة الاجتماعية أو ضد قانون التقاعد الجديد.
انحياز التغطية هذا متوافقٌ، على أيّ حال، مع موقف الحكومة، التي صرّح وزير الداخلية فيها، جيرالد دارمانان، الخميس الماضي، بأنه "متعاطفٌ" مع المزارعين، وأنه قرّر "ترْكَهم يفعلون" ما يريدون فعله للتعبير عن غضبهم، مؤكّداً أنه "لا يمكن الاستجابة لمعاناة المزارعين عبر إرسال قوّات الشرطة"، بل عبر "الإنصات" إلى مطالبهم واقتراح إصلاحات لتحسين أوضاعهم الاقتصادية والمعيشية.
وتُحال هذه المرونة التي تبديها الحكومة الفرنسية تجاه "غضب المزارعين" إلى رغبة في التقرّب وكسب أصوات هذه الشريحة الاجتماعية، والمتعاطفين معها من الطبقات المتوسّطة والفقيرة، في معركتها الانتخابية أمام اليمين واليمين المتطرّف، خصوصاً وأننا على بُعد أشهر قليلة من استحقاق انتخابي مهمّ: انتخاب ممثّلي فرنسا في البرلمان الأوروبي، في يونيو/ حزيران المقبل.
بعض الجهات الإعلامية شاءت الذهاب أبعد من التعاطف من خلال التغطية، كما فعلت قناة سي نيوز، ذات التوجّه الشعبوي واليميني المتطرّف، وإحدى أكثر القنوات الإخبارية متابعةً في البلاد، حيث قامت بقلب شعارها رأساً على عقب، تعبيراً، بحسبها، عن "التضامن" مع المزارعين "لأنهم القلبُ النابض لسيادتنا الغذائية وعِمادُ موروثنا الفرنسي، ولأنهم يحرثون حقولنا، ولأن عَرَق جباههم يتحوّل في كثير من الأحيان إلى دموعٍ من دم"! تغيُّرٌ يقول الكثير عن الحال الذي وصل إليه قسمٌ من الإعلام الفرنسي.