على غرار مدن عراقية أخرى مثل بغداد والبصرة وذي قار وصلاح الدين وسط وجنوب وشمالي البلاد، تُسجل مدينة الموصل وبلدات ضمن محافظة نينوى تضييقاً واسعاً على الناشطين المدنيين الملاحقين، يتفاوت بين رسائل التهديد والدعاوى القضائية.
والتضييق على ناشطي الموصل لا ينحصر في فصائل أو أحزاب سياسية، كما هو الحال في المدن الأخرى، بل إن نافذين من داخل المدينة نفسها، من أصحاب المصالح السياسية والمالية، يمارسون عمليات تضييق مختلفة لغرض إسكات هؤلاء.
خلال الأشهر الماضية شهدت محافظة نينوى حملة تستهدف الناشطين والصحافيين، عبر شكاوى قضائية تقدّم بها مسؤولون محليون، على خلفية انتقادات وجهت ضدهم وكشف ملفات فساد متورطين فيها، أو تسليط الضوء على التقصير في أداء الواجب الوظيفي. ووفقاً لمسؤول محلي في الموصل، فقد صدرت خلال الأشهر الماضية 21 مذكرة قبض بحق ناشطين وصحافيين ومدونين من المحافظة، بعد انتقادات لدوائر حكومية ومديريها.
وقال المسؤول نفسه الذي فضّل عدم الكشف عن هويته، لـ"العربي الجديد"، إن "أغلب المذكرات صدرت وفق المادة القانونية الخاصة بالتشهير والقذف وإهانة السلطات"، مبيناً أن "أحد المدونين صدرت بحقه مذكرة قبض لنشره مقطع فيديو وهو يقول إن تبليط الشوارع ليس إنجازاً، بل إن الإنجاز الحقيقي يكون في مد الجسور وإنشاء المطارات وتدشين المستشفيات". كما ذكر أن أحد المدونين صدرت بحقه مذكرة قبض بسبب نشره عبر وسائل التواصل تساؤلاً عن مصير مشروع تلفريك الموصل الذي أعلنت هيئة استثمار نينوى إحالته للتنفيذ العام الماضي. وأضاف أن "من بين الناشطين والصحافيين البارزين في نينوى الذين صدرت بحقهم مذكرات قبض أو استدعاء، هم ياسر الحمداني، وأحمد الجفال، ومحمد سالم، ومحمود الجماس، وزياد السنجري، ووليد صالح، وصقر آل زكريا، وريان الحديدي، وسهر الدليمي، وسعد الوزان، وسعد عامر، وحكم الدليمي، ومهند الأومري، وسعد عزام".
ياسر الحمداني أحد الصحافيين الذين صدرت ضدهم مذكرة قبض بتهمة التشهير، وأفرج القضاء عنه الأسبوع الماضي لعدم كفاية الأدلة. قال الحمداني، لـ"العربي الجديد"، إن "المسؤولين الحكوميين في نينوى لجأوا أخيراً إلى رفع شكاوى ضد الصحافيين بسبب تشخيص حالات فساد، أو انتقادهم لطريقة مشبوهة في إحالة المشاريع، أو للتلكؤ الحاصل في تنفيذ بعض المشاريع". ووصف الحمداني ما يجري من استهداف للصحافيين عبر الشكاوى القضائية بأنه "محاولة من المسؤولين لتكميم الأفواه وتقييد الحريات وإسكات الأصوات التي تنتقد الفساد والفاسدين". وأضاف أن "القضاء يعتمد على الأدلة الجرمية التي تدين الصحافي، ولعدم ثبوت الأدلة في قضيتي، فإن القضاء في نينوى أنصفني"، مؤكداً أنه سيواصل عمله كالسابق وسيواصل الكشف عن ملفات الفساد.
تنص المادة 38 من الدستور العراقي لعام 2005 على أن "تكفل الدولة، وبما لا يخل بالنظام العام والآداب، حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل، وحرية الصحافة والطباعة والإعلان والإعلام والنشر، وحرية الاجتماع والتظاهر السلمي". لكن ما سبق يبقى شعارات لا تطبق في غالب الأحيان، ويمكن التلاعب بها من قبل المسؤولين الحكوميين أو الجهات التي تحاول تسييس القانون وتكميم الأفواه.
ووافق أول من أمس الخميس الذكرى الـ154 لتأسيس "الزوراء"، وهي الصحيفة الأولى في العراق. يعد هذا التاريخ عيداً للصحافة العراقية. وبالتزامن مع هذه المناسبة، أكد مركز النخيل للحقوق والحريات الصحافية في العراق أن "الصحافي العراقي أصبح لقمة سائغة لمن يسعون لتطويع نصوص القوانين والتشريعات لمواجهة الصحافي والتضييق عليه، وهدفاً سهلاً للسلاح المنفلت والرصاصات التي تبحث عن عدو وهمي وافتراضي".
وأشار المركز، في بيانه الصادر الخميس، إلى أن الصحافيين واجهوا طيلة الأعوام الثلاثة الماضية "هجمات مسعورة ومنظمة من قبل منصات إلكترونية تتبع لجهات معروفة، كان همها الوحيد إقامة حفلات الشتم والتحريض والتهديد بالصحافيين وعوائلهم"، وبيّن أن المؤسسات الإعلامية غير الحزبية "عاشت في جو غير مسبوق من الترهيب والتخريب والحرق والاعتداء في وضح النهار"، ولفت إلى قيام جهة رسمية بغلق بعض صفحات الصحافيين والناشطين وأصحاب الرأي المعارض على موقع فيسبوك، "في استغلال بشع للسلطة والصلاحيات، رغم الوعود الحكومية المتكررة بحماية حرية الصحافة".
والأسبوع الماضي، اتهم تجمع شباب نينوى المدني في الموصل المسؤولين الحكوميين والأحزاب المتنفذة في المحافظة بملاحقة الناشطين عبر الدعاوى الكيدية، ودعا السلطات القضائية في بيان إلى حمايتهم، مؤكداً أن "تلك الجهات تلاحقهم عبر تقديم بلاغات وتهم كيدية لدى القضاء بسبب انتقادات للواقع الخدمي السيئ أو ملفات الفساد"، وأشاروا إلى أن تلك الممارسات "تمثل محاولات لإسكات صوت الشباب الناشطين، وتكميم أفواههم، ومنعهم من قول الحقائق أو انتقاد أي مسؤول فاسد". ويرتكز المسؤولون في تقديم الشكاوى على مواد التشهير أو القذف في قانون العقوبات العراقي رقم 111، والذي حدد عقوبة بالحبس من سنة إلى خمس سنوات.
الصحافي زياد السنجري أكد أن المذكرات القضائية الكيدية لاحقت عشرات الشباب الناشطين والمدونين والصحافيين في نينوى، وبعضها يرجع لانتقاد دائرة معينة عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وأضاف السنجري، في حديثه مع "العربي الجديد"، أن "المسؤولين يتقدمون بشكاوى وفقاً لمادة السب والقذف في القانون العراقي وذلك يعتبر خلافاً للدستور العراقي في مادته الـ38 التي كفلت حرية التعبير والصحافة والرأي"، مبيناً أن بعض مذكرات القبض صدرت بحق ناشطين وصحافيين مقيمين خارج العراق بسبب انتقادات للأوضاع السلبية داخل البلاد.
ولفت زياد السنجري، الصحافي الموصلي الذي يقيم حالياً في النمسا، إلى وجود ضغوطات كبيرة يمارسها السياسيون على القضاء العراقي، من أجل تمرير التهم الكيدية ضد الناشطين والمدونين، معبراً عن ثقته بالقضاء العراقي بإنصاف الصحافيين والناشطين وعدم الرضوخ لضغوطات بعض الجهات السياسية المتنفذة.
من جهته، دعا الناشط الموصلي وممثل مجلس أسر وعائلات الموصل، لازم حميد، إلى إنصاف الناشطين وحمايتهم من محاولة استهدافهم من بعض المسؤولين الذين يستغلون بعض النصوص القانونية في هذا المجال. وقال حميد لـ"العربي الجديد": "بعض المسؤولين يستهدفون الناشطين الذين ينتقدون الحالات السلبية لإسكات صوتهم"، مبيناً أن الانتقادات التي توجه لا تنطلق من عداوات شخصية، ولكنها نقد بناء يستهدف تحسين الأوضاع ومعالجة الأخطاء في تنفيذ المشاريع. واستغرب حميد من قيام بعض المسؤولين المحليين في نينوى باستهداف الناشطين حصراً بالملاحقة القضائية عندما يكشفون ملفات فساد، بينما لا يُستهدف أي من النواب والسياسيين الذين يتحدثون عن فساد تلك الدوائر أو تلكؤها في تنفيذ المشاريع المكلفة بها.
المرصد العراقي لحقوق الإنسان رصد استخدام بعض المسؤولين الحكوميين للدعاوى القضائية في ملاحقة الناشطين والصحافيين، وقال مديره مصطفى سعدون، لـ"العربي الجديد"، إن "هناك من يستخدم الدعاوى القضايا ضد الناشطين والصحافيين لمنعهم من التعبير عن آرائهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أو عبر الإعلام التقليدي". وأضاف سعدون أن "محاولات المسؤولين التضييق على أصحاب الرأي تنتهي بعد تدخل القضاء في رد الدعاوى وإنصاف المتهمين، إذ يتضح يوماً بعد آخر أنها ملاحقات غرضها الترهيب".