حروب لبنان في سينماه: نقصٌ لا يُلغي اشتغالات

07 أكتوبر 2024
منال عيسى في "دفاتر مايا": حطامٌ تصنعه الحرب (الملف الصحافي)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- السينما اللبنانية بحاجة إلى مزيد من الأفلام التي تتناول الحرب الأهلية اللبنانية ومواضيع مثل المفقودين والتهجير القسري والاغتيالات السياسية، مع نقص في تقديم الشخصيات الفلسطينية والسورية.
- هناك غياب للشخصيات الإسرائيلية في الأفلام اللبنانية بسبب الخوف من الرقابة، رغم تأثيرها الكبير في الحرب، كما يظهر في أفلام مثل "طيّارة من ورق".
- الجيل الجديد من المخرجين يركز على الجوانب الفردية للحرب، كما في "أشباح بيروت" و"بيروت الغربية"، مما يعكس العلاقة المعقدة بين الأفراد والحرب.

مقولةٌ تتردّد مراراً في أوقاتٍ سابقة، وفي مناسبات متفرّقة: "يكفي ما أُنجز من أفلامٍ لبنانية عن الحرب". الحرب المعنيّة "أهلية لبنانية"، ممتدّة في 15 عاماً (1975 ـ 1990): نهايتها ملتبسة، وأسئلتها مُعلّقة، والسلم الناتج منها هشّ وناقصٌ، يكاد يكون امتداداً لها بأشكالٍ أخرى. أمّا المقولة، فحاضرة في تفكيرٍ فرديّ، له مساحة جماعية، يقول بها طلاب وطالبات جامعيون يدرسون السينما، أو ما يُعرف بـ"فنون سمعية بصرية". مرتادو صالات سينمائية، نساءً ورجالاً، يطلبون أفلاماً لبنانية ويحبّذونها ويتحمّسون لها، شرط ألا تقترب من تلك الحرب، لـ"كثرة" (!) المُنجز عنها، وفي هذا افتراءٌ، فالسينما في لبنان، رغم أفلامٍ عدّة عن حربه الأهلية واللاحق عليها، مُطَالبة بمزيدٍ من اشتغالٍ يتناولهما (الحرب الأهلية واللاحق عليها)، ويُفكّك ما فيهما من أسئلة وحكايات وحالات.

غياب ملفات وأسئلة وعوامل

ملفاتٌ كثيرة تنفضّ عنها أفلام الحرب: المفقودون/المخطوفون، المُعوّقون/المعوّقات، التهجير القسري (تغيير الديموغرافيا، طائفياً واجتماعياً)، بيع الأطفال/الأعضاء البشرية، الاغتيال السياسي، القنص، المجازر/جرائم حرب، وغيرها. بعض تلك الملفات غير حاضر في سينما بلدٍ مُصاب بأعطابٍ جمّة. العاملان الفلسطيني والسوري، أحد أسباب اندلاع الحرب التي يشاركان فيها بفعالية، لن تتناولهما تلك السينما إلا بعد تأخّر مديد، وبنُدرة غير متلائمة أبداً مع الدورين الفلسطيني والسوري فيها. أول شخصية فلسطينية تتبوّأ صدارة المشهد السينمائي، وتُشارك في صُنعه، تظهر في "قضية رقم 23" (2017) لزياد دويري؛ وأول شخصية سورية يكون لها دورٌ أساسي في الفيلم، كما في ذاكرة حرب أهلية، تظهر في "محبس" (2017) لصوفي بطرس.

نزاعٌ بين عامل فلسطيني (كامل الباشا) وصاحب كراج لتصليح السيارات (عادل كرم)، مناصرٌ بشدّة لليمين المسيحي (بشير الجميل تحديداً) يفتح أبواب الجحيم اللبناني زمن الحرب، ويستعيد نقاشاً غير مُكتمل، وغير محسومة أسئلته، بين الفلسطيني واللبناني في مسائل شائكة ومُعلّقة بينهما (قضية رقم 23). أمّا الحب الناشئ بين سامر (جابر جوخدار) وغادة (سيرينا شامي)، الذي يُؤدّي إلى رغبة في خطوبة بينهما، فينكأ جرحاً (غير مندمل أصلاً) في ذات تيريز (جوليا قصّار)، والدة غادة، عند إدراكها أنّ والدَي سامر (بسام كوسا ونادين خوري) سوريّين: شقيق تيريز مقاتل مسيحي يُقتل في معركة مع الجيش السوري زمن الحرب الأهلية (محبس).

هذا غير عابرٍ. عدم تقديم الفلسطيني ـ السوري في فيلمٍ لبناني، يتناول حرباً أهلية، يتناقض كلّياً مع واقع أنّ لهاتين الشخصيتين تأثيراً مباشراً في اندلاعها واستمرارها، وفي أهوالها أيضاً، بالجانبين العسكري والسياسي طبعاً، علماً أنّ للمدنيِّيَن الفلسطيني والسوري علاقات مع لبنان وشعبه في الاجتماع والثقافة والاقتصاد والحياة، متداخلة ومتشابكة ومُعقّدة، وهذا كافٍ لأفلامٍ غير معنيّة بالحرب، بالضرورة. انفضاض مخرجين ومخرجات عنهما غير مفهوم، رغم تبريراتٍ تُقال، وأحدها أكثر إقناعاً من غيره: عدم التعرّف إلى فلسطيني في فترتي المُراهقة وأوّل الشباب، بالنسبة إلى من يُنجز فيلماً ذاتياً/شخصياً، ويكون زمنه حرباً أهلية. هذه سمة أخرى تجمع أفلاماً لبنانية عن الحرب: الذاتي/الشخصي غالبٌ، وفي الذاتي/الشخصي ما يُصيب جماعة.

الغائب الآخر، الذي له دور بارز وخطر أيضاً في صنع الحرب والمشاركة فيها بشكل ما، وخوض حروبٍ له فيها أيضاً، يتمثّل بالإسرائيلي. سيُقال إنّ قلقاً من الرقابة ينتاب مخرجاً/مخرجة إنْ تكن هناك شخصية إسرائيلية، مع أنّ هذه الأخيرة ستكون، أساساً، جندياً/جندية أو سياسياً/سياسيّة يعملان على تدمير لبنان، وإذكاء الحرب/الحروب الأهلية فيه (ألا يستحقّ التطبيع والمطّبعين/المُطبّعات مع إسرائيل، كما المتعاملين/المتعاملات معها، اهتماماً سينمائياً؟ هذا وحده يحتاج إلى نقاشٍ، فتناوله يصطدم بتعقيدات العلاقات الطائفية/السياسية/الاجتماعية في الاجتماع اللبناني). رفع علم إسرائيل في فيلمٍ لبناني غير معرّض لرقابة، والدليل أنّ "طيّارة من ورق" (2003) لرندة الشهّال يُصوِّر جندياً إسرائيلياً درزياً (ماهر بسيبس) يُغرم بمُراهقة درزية (فلافيا بشارة) في قرية حدودية بين لبنان وفلسطين المحتلّة (دير ميماس). مجزرة شاتيلا وصبرا (16 ـ 18 سبتمبر/أيلول 1982)، التي تحضر في أفلامٍ وثائقية متفاوتة الأهمية السينمائية، لكن المهمّة وثائقياً ومادة وتناولاً، يغيب عنها الإسرائيلي مباشرة، وبعض تلك الأفلام يستمع إلى حكايات مقاتلين من مليشيا القوات اللبنانية، المشاركين في المجزرة، كما في "مَقَاتل" (2005) لمونيكا بورغمان ولقمان سليم وهيرمان ثايسن، مثلاً.

الإسرائيلي هذا يظهر سينمائياً في فيلمٍ، يتناول جزءٌ منه الحرب الأهلية اللبنانية، لكنّه مصريّ الإخراج وبعض التمثيل وفنّيات أخرى: "ناجي العلي" (1992) لعاطف الطيّب، المُصوّرة مشاهد عدّة منه في بيروت ومناطق لبنانية أخرى. ففي سرده مقتطفات من سيرة رسّام الكاريكاتور الفلسطيني (1938 ـ 1987)، المُغتال في لندن، يُذكر الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وحصار بيروت عام 1982، وتُصوّر لقطة في مقهى ويمبي (شارع الحمرا)، تتناول أول رصاصة في جسد جندي إسرائيلي ستكون انطلاقة "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (جمول)".

أكثر من جيل والحرب واحدة

الردّ على مقولة طلاب وطالبات، وآخرين وأخريات، سهلٌ وبسيطٌ وواقعي: الأفلام اللبنانية، الروائية والوثائقية، المُنجزة في أعوام الحرب الأهلية، وفي اللاحق على نهايتها المزعومة، أقلّ بكثير مما يُعتَقَد أنّه كثيرٌ، ومما يُفترض بالسينما اللبنانية (كما الفنون والآداب والدراسات) أنّ تتناولها.

الاشتغالات السينمائية، بدءاً من تسعينيات القرن الـ20 مثلاً (كما زمن الحرب نفسها)، غير كافية لقراءة تلك الحرب، وقراءة إفرازاتها، في الجوانب كلّها، مع أنّ أفلاماً عدّة ترتكز على بعضها. مخرجو السينما البديلة ومخرجاتها (مارون بغدادي وبرهان علوية وجوسلين صعب وجان شمعون ورندة الشهّال وغيرهم)، المنصرفون إلى أحوال البلد، اجتماعاً واقتصاداً وحياة وعلاقاتٍ، قبل عام 1975، يستمرّون في مقاربة الحرب الأهلية، روائياً (ولو قليلاً) ووثائقياً/تسجيلياً/تلفزيونياً (وفرة لا بأس بها)، في أعوامها الأولى، فهُم، في الربع الأول (تقريباً) من ثمانينيات القرن الـ20، يغادرون واحداً تلو الآخر إلى المنافي الأوروبية، فرنسا أساساً، من دون التنصّل من الهمّ اللبناني، الذي يشتغلونه من خارج البلد.

جيلٌ آخر، يعود أفراده إلى البلد في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي، يجدون في البدايات المرتبكة للسلم الناقص ما يُشغِل تفكيراً وتأمّلاً وتنقيباً في أحوال أفراد وحالات أناس وبلد، مستعيدين جوانب من الحرب أيضاً.

هذا حاصلٌ، لأنّ الحرب غير منتهية فعلياً، والمصالحة، التي يُفترض بها أنْ تُشكّل أوّل خطوة فعّالة فيما بعد النهاية المزعومة للحرب (التأسيس الفعلي لسلم أهلي متين)، يغتالها قانون عفو عام (26 أغسطس/آب 1991)، يجعل أمراء الحروب/الطوائف أبطال سلمٍ يُشبه حروبهم/طوائفهم. قانونٌ كهذا يُحصِّن قانون رقابة معمول به منذ أزمنة ساحقة، يتضمّن بنوداً يُتلاعَب بها بسهولة، وتُفَسّر دائماً وفقاً لمصالح أمراء حروب/طوائف وأبطال سلمٍ يُمنع بدوره من أنْ يكون كاملاً وعميقاً وحقيقياً. رغم هذا، يواجِه مخرجون ومخرجات موانع وقيوداً، بحسب الممكن، ليقولوا شيئاً من ماضي تلك الحرب، وبعضاً من مسار اللاحق عليها.

الأسماء وفيرة. تعدادها، أو تعداد بعضها، صعبٌ في مقالة كهذه. اختيار أفلامٍ روائية طويلة يصلح لتبيان معالم سينما تُصنع في لبنان، وإنْ بفضل مشاركة إنتاجية غربيّة غالباً، وتستعيد حرباً أهلية، وفيها حروب إسرائيلية ضد لبنان واللبنانيين تُشنّ بحجّة واحدة: القضاء على المقاومة، الفلسطينية وحلفائها اللبنانيين أولاً، واللبنانية ثم الإسلامية لاحقاً. أفلامٌ كهذه مهمومة أكثر بمعاينة مصائب فردية، وبسرد حكاياتٍ ذاتية، مع انفتاحٍ مبطّن على جماعة ومُحيط وبيئات.

أمثلة

أمثلة غير لاغية أخرى: عام 1998، يُنجز غسان سلهب "أشباح بيروت"، وزياد دويري "بيروت الغربية". إنّهما أول فيلمين روائيين طويلين لهما. لكنّ المختلف بينهما أنّ للذاتي في الثاني مساحة أكبر من تلك التي في الأول: "أشباح بيروت" يختار نهاية ثمانينيات القرن الـ20، مع عودة خليل (عوني قوّاص) إلى مدينته بعد اختفائه سنين عدّة. خليل مقاتل سابق (الحركة الوطنية؟ اليسار اللبناني؟ غير مُهم، فالأهمّ أنّه في المعسكر المناهِض لليمين المسيحي)، يختفي فجأة، وعودته بعد عشرة أعوام تُثير صدمة وقلقاً كصدمة اختفائه وقلق زملاء وأصدقاء ومعارف من اختفائه المفاجئ هذا. دويري ينتقي من سيرته الذاتية ما يُساعد على كتابة نصٍّ يروي بدايات الحرب الأهلية، كما يعيشها ثلاثة مراهقين، أحدهم يُمثّل شيئاً كثيراً من شخصيته وسيرته.

اتّخاذ موقفٍ من الحرب غير أساسيّ، فالأساسي التقاط لحظة (أو أكثر) من زمن الحرب، لقول مُفيدٍ، سينمائيّاً أولاً، عن علاقة المخرج بالحرب والبلد والناس. هذا يحضر في "الإعصار" (1992)، أول روائي طويل أيضاً لسمير حبشي: يعود طالبٌ إلى بلده، فتحلّ فيه كوابيس حرب وموتٍ وأشباحٍ وقلاقل. هناك أيضاً أول روائي طويل لوليد مونّس "1982"، المُنجز عام 2019: عنوان الفيلم يُحيل إلى لحظة الاجتياح الإسرائيلي للبنان، بدءاً من 5 يونيو/حزيران. لكن هذا غير ظاهرٍ، باستثناء طائرات بعيدة قبيل نهايته. فالحبكة تشهدها مدرسة خاصة خارج بيروت، ومسائل عدّة (حبّ، مراهقة، علاقات بين تلامذة، إلخ) تحصل في ظلّ قصفٍ يُسمع دويّه؛ وشقيق المُدرّسة (نادين لبكي) مقاتل في المليشيا المسيحية، لكنّ الحرب مخبّأة خارج الكادر.

استناداً إلى رسائل لها مكتوبة بين عامي 1982 و1988، ومُرسلة إلى صديقة لها، تُنجز جوانا حاجي توما مع خليل جريج "دفاتر مايا" (2021). عودة إلى الحرب الأهلية، عبر يوميات مُراهقة (منال عيسى) تعيش حُطاماً تصنعه الحرب أساساً في عائلتها ومدينتها وبلدها. حرب تنعكس على ذوات ومنازل وعلاقات، وتُشوِّه لقاء عفوياً بين مُراهِقَين يصنع (اللقاء) حبّاً بينهما، في حرب تكسر كلّ شيءٍ، من دون قدرة على كسر الحبّ.

سؤال الحرب الأهلية في السينما اللبنانية غير منتهٍ. أفلامٌ أخرى تُقاربها بأنماطٍ مختلفة. الحرب الإسرائيلية الجديدة على لبنان تحرِّض على استعادة سينمائية لأفلامٍ تتناول بعض الحروب الإسرائيلية السابقة (العربي الجديد، 27 سبتمبر/أيلول 2024).

المساهمون