"حربٌ أهلية": دراما خشنة ومزعجة واستفزازية ومثيرة للجدل

29 ابريل 2024
"حرب أهلية": صحافة بين العسكر (الملف الصحافي)
+ الخط -
اظهر الملخص
- فيلم "حرب أهلية" لألكس غارلاند يعيد تعريف الأعمال الحربية بتحويله إلى دراما تستكشف البقاء وغياب الأخلاق في الفوضى، محققًا نجاحًا كبيرًا بميزانية 50 مليون دولار.
- يركز الفيلم على أربع شخصيات رئيسية، مصورين صحافيين ومتدربة، يقدمون نظرة معتدلة على الحرب الأهلية الأمريكية الثانية، مما يثري التجربة السينمائية.
- غارلاند يقدم نقدًا لاذعًا للمجتمع الأمريكي المعاصر وانقساماته، من خلال رحلة الشخصيات واستكشافهم لعواقب الحرب الأهلية، مقدمًا تجربة فريدة تتحدى الصور النمطية.

 

ليس كلّ شيءٍ كما يبدو للوهلة الأولى، حين يتعلّق الأمر بـ"حرب أهلية"، جديد البريطاني ألكس غارلاند. فالمقاطع الترويجية، والمقالات الدعائية والصحافية قبل إطلاق عروضه في الولايات المتحدة الأميركية (حيث تصدّر شبّاك التذاكر في أول أسبوعين من عروضه التجارية، مُحقّقاً أفضل انطلاقة في الصالات في تاريخ إنتاجات شركة "A24"، النجم الصاعد في المشهد السينمائي الأميركي)، تشير إلى أنّه فيلم حرب بامتياز، مع مشاهد كثيرة من الأكشن والهروب والصراخ والانفجارات.

لكنّ الفيلم شيء آخر تماماً. صحيح أنّ أحداثَه مواجهات مُسلّحة، وحالة شذوذ سياسي تام؛ لكنّ جوهره يتناول البقاء والتأمّل، وغياب الأخلاقيات المطمئنة، وبراعة سمعية وبصرية وظيفية ومتماسكة مع المسار الطويل والمتعرّج، وغير المتوَقّع، الذي سلكه ثلاثة مُصوّرين صحافيين مخضرمين، ومُتدرّبة شابّة، بينما ينهار العالم، أو الولايات المتحدة بحسب هوليوود.

اختيار مهنة الشخصيات ليس عرضياً، لأنّه يُتيح أمرين: يسمح لهم، ومعهم المشاهدون، بالوصول المباشر والمميّز إلى الأماكن والشخصيات التي لا يمكن الوصول إليها لو كانوا مواطنين عاديين أو هائجين؛ كما يمكنهم مراقبة الأحداث باهتمامٍ ونظرة معتدلة، مُجرَّدين من المصالح الذاتية، حتى عندما يصبحون ضحايا مباشرين لما يحدث. فالبلد، المنخرط في حربٍ داخلية، بلدهم، الحامل علمه بعصا أفقيّة ونجوم. ورغم أنّ هذا السيناريو غير مُحتمل على المدى القصير، إلا أنّه يحمل بصمة معقولة تجعله مخيفاً.

لا يوجد هنا أي استحضار لتجارب علمية منفلتة، كما في الفيلم القيامي "بعد 28 يوماً" (2002) لداني بويل، الذي كتب غارلاند نفسه نصّه السينمائي. كما لا يوجد عامل خارجي يعمل محفّزاً (مسلمون، روس، أو غيرهم)، إذ إنّ مستقبلاً أميركياً قريباً يشبه حاضر البلد، المنقسم إلى حدٍ كبير، بخصوصياته المتفاقمة، التي لا تشبه المبالغات المفارقة التي تليق بما بعد نهاية العالم. في مستقبل غير بعيد ومعروف تماماً، كما لو أنّ مراكمة أعمال الشغب في شوارع لوس أنجليس، والقتل المجاني العشوائي بالأسلحة، واقتحام الكابيتول في 6 يناير/كانون الثاني 2021، أفضت إلى انقلاب على السلطة الحاكمة؛ إذاً، في هذا المستقبل، هناك المرحلة الأخيرة من الحرب الأهلية، التي تتقدّم فيها قوّات متمرّدة بطريقة كاسحة نحو واشنطن العاصمة، حيث يتصدّى لها الرئيس (نيك أوفّرمان) مع قوات قليلة موالية له.

إذا كانت الطريقةُ المعتادة لبدء هذا النوع من القصص الاستعانةَ بصُور نشرات إخبارية تُقدّم ملخّصاً لما حدث، فإنّ غارلاند يفعل ذلك مع رئيس الولايات المتحدة نفسه (الآن بات في ولايته الثالثة، ويرفض التخلّي عن الحكم كما ينصّ الدستور)، معلناً تصعيد الصراع الناتج من حركة انفصالية ناجحة لتحالفٍ يضمّ ولايتي كاليفورنيا وتكساس، وهما من أهمّ الولايات التي تقع تاريخياً على طرفي نقيض أيديولوجي، فإحداهما ديمقرطية و"تقدّمية"، والأخرى محافظة للغاية. المؤكّد هنا أنّهما أنشآ "القوات الغربية"، وأعلنا عصياناً على تنفيذ أوامر البيت الأبيض.

 

 

لا دقّة زمنية لمدة هذه الحرب الأهلية الأميركية الثانية. تظهر مُصوّرة "رويترز" الشهيرة لي سميث (كيرستن دانست)، والصحافي جويل (فاغنر مورا) وزميلهما المخضرم سامي (ستيفن ماكينلي هندرسون) من "نيويورك تايمز"، أثناء تغطيتهم احتجاج/معركة شوارع في بروكلين، ثم يتقاطع مسارهم مع الشابّة جيسي (كايلي سبايني). لكنّ مشهد المباني المتهدّمة، والمتاجر المنهوبة، والشوارع المليئة ببقايا السيارات المهجورة أو المحترقة، يشير إلى أنّ الأمر لم يبدأ أمس.

النقطة المهمة أنّ لي سميث تُجنِّب جيسي موتاً مُحقّقاً، وجيسي مُعجبةٌ بعمل منقذتها. في ظلّ هذه الخلفية القاتمة (المليئة بمواقف عنيفة ووحشية)، ينطلق الصحافيون الأربعة في شاحنة من نيويورك إلى العاصمة، في طريق تأخذهم عبر بنسلفانيا وفرجينيا الغربية، وصولاً إلى شارلوتسفيل، إحدى جبهات القتال. الرباعي متنوّع ورافد للأحداث: سامي يعاني السُمنة، ويمثّل ما يشبه الأبّ والمعلّم؛ ومُحتَرِفَان اثنان متمرِّسَان وذوا خبرة (لي سميث وجويل)؛ وجيني مُبتدئة لا تتمتع بالخبرة، بقدر ما أنّها جريئة وغير مسؤولة.

رحلتهم أقرب إلى فيلم طريق، تُقطع فيه مئات عدّة من الكيلومترات بالسيارة. تقترح كلّ محطة جديدة وغير طوعية مواقف متطرفة، يواجهونها ويتغلبّون عليها معاً. غالباً تكون المواقف العنيفة، التي يُصوّرها غارلاند، هكذا: لهجة سلمية مزعجة، من دون حدّة، أو موقف سياسي محدّد. لا أخيار وأشرار هنا، وإذا كان هناك تصنيف كهذا، فهما وجهان لعملة واحدة. في النهاية، هم مخلوقات منخرطة في حربٍ بين أشقاء، لن يخرج أحدٌ منها سالماً.

معطيات وأسلوب تفسّر كيف نجح غارلاند بإخراج أغلى فيلم في تاريخ شركة "A24" (50 مليون دولار أميركي)، مُحقّقاً إنجازاً تجارياً للشركة المستقلّة، ومُقدّماً في الوقت نفسه دراما خشنة ومزعجة واستفزازية ومثيرة للجدل (لم تعد كذلك الآن)، تأخذ الصراع المسلّح الدموي إلى أحشاء المجتمع الأميركي. الأهم كيفية تحقيقه ذلك في فيلمٍ كاسح وغامر ومتفجّر دائماً، بالمعنين الحرفي والمجازي (يشبه جلب حرب البلقان أو حرب غزة إلى الأراضي الأميركية نفسها)، عبر سردية بعيدة عن أي ديماغوجيا، أو تنازلات توفيقية.

لهذا السبب تحديداً، يمتلك الفيلم قيمة، في زمن السينما المُعدّة مسبقاً، والملتزمة قواعد الصواب السياسي.

المساهمون