الانطباع الأول الذي يخطر في بال المشاهد العربي عندما يتابع "جولة إعلامية" لسياسي أو جهة سياسية، هي أن كل تفاصيل الجولة مدبرة سلفاً. الابتسامات الزائفة، الأشياء المرتبة في أمكنتها، الثقة الزائدة عن اللزوم، وكل ما تُظهره الجولات الإعلامية التي تتيح للصحافيين التصرف بحرية، داخل زنزانة "بانوبتيكونية"، بالمعنى الذي يتحدث عنه ميشال فوكو. تلك الزنزانة التي تتيح للسجان مراقبة جميع السجناء من نفس الزاوية وبنفس الطريقة، هي تماماً، تلك "الجولة الإعلامية" التي يذهب إليها الصحافيون للنظر إلى كل ما هو مرتب سلفاً. سيخضعون للرقابة ذاتها، ويتوجب عليهم أن يعلقوا في الزنزانة، فلا يخرج منها إلا ما يريد السجان. إلى هذا السجن، هناك من يذهب مستكشفاً، وهناك من يذهب مسروراً. هناك من يتحدث عن الأيديولوجيا، وعن نظريات إعلامية رثة. لكن ربما، لن نجد تشبيهاً للصحافيين في الجولات الإعلامية مثل المحتجزين في الزنازين التي اكتشفها فوكو.
سيتذكر المشاهد العربي بشار الأسد وهو ذاهب للصلاة في الغوطة، بعد الانتهاء من "جولة" مجازر أخرى. وإن كان لبنانياً، قد يتذكر جولة لوزير الخارجية جبران باسيل يشحذ فيها همم الأقليات من أجل حقوقها الطائفية. ولكنه، غالباً، سيتذكر جولة إعلامية، ينظمها الإعلام الحربي في "حزب الله"، في مناطق خاضعة لسيطرته تماماً. وإن كان النقاش عن سيطرة الحزب وسيطرة الدولة اللبنانية مطروحاً منذ وجود الحزب نفسه، وأثناء تفكك الدولة نفسها، فإن السؤال الجديد، عن وظيفة هذه الجولات التي تأتي دائماً كاستجابة لتصريحات معادية. رغم كل شيء، هناك فرضيات وافتراضات، عن جدوى هذه الجولات ووظائفها.
الافتراض الأول، هو ما يقوله الحزب المنظّم عنها، أي أنها لإطلاع الرأي العام على الحقيقة. بطبيعة الحال، يبدو تصديق هذه الفرضية صعباً. ذلك أن اللبنانيين ليست لديهم شكوك في أن الإسرائيليين يكذبون، وأنهم لا يقولون الحقيقة. وبالتالي، ثمة وظيفة أخرى للجولات، يجب البحث عنها: تأكيد وجود طرفين في النزاع، لا ثالث لهما. الاحتلال الإسرائيلي وحزب الله. الأطراف الأخرى، كالشعب والدولة، لا وجود لها في الواقع، أو عند الحديث عن الحقيقة. في علاقات القوة، ثمة من يعلن إمساكه بزمام الأمور.
في عصر السوشيال ميديا، تعد وسائل الإعلام أدوات جماهيرية، يحصل المجتمع خلالها على الصورة، أو التصور الذي يستمد منه إحساسه بالواقع. وليست هذه هي المرة الأولى التي يكون فيها الإحساس بالواقع عرضة للتشويه. بشكل عام، تروّج وسائل الإعلام للحرب، وفي ذات الوقت تبحث الحرب عن الإعلام لكي تكون كاملة، وتستوفي معناها كحدث يعلن تغيير الواقع. ولعل شرح جان بودريار المطوّل لفكرته هذه، في نصه الذي صار مرجعياً عن حرب الخليج، يشير إلى نقطة أساسية، متعلقة بالترويج تحديداً. هذا الترويج، هو أحد أكثر الطفيليات ذات البشرة السميكة في الثقافة، وفي ذات الوقت يمتلك وظيفة تحويل العنف إلى مادة قابلة للاستهلاك. إذاً، ليس ما نتحدث عنه بالضبط هو "مهنية" قد تنحدر إلى حياد غير عادل، وليس "معايير مهنية" جامدة، تقود في نهاية الأمر إلى "تلطيف" صورة الاحتلال، وتصوير اعتداءاته المتكررة بوصفها جزءاً من نزاع مستمر في الحدوث (الجولة الأخيرة التي نظمها حزب الله كانت لدحض مزاعم رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو عن وجود صواريخ في منشأة في الجناح في بيروت).
ما نبحث عنه، هو جانب أكبر من حقيقة ما، الحق بمشاركة الإعلام في السؤال عن الصورة، كفعل يتعرض للتشويه على مراحل من الداخل ومن الخارج. هل فعلاً تحدث الأشياء؟ أم أن التوتر على الحدود الجنوبية اللبنانية مع فلسطين المحتلة، هو تصور لمعادلة ما عن القوة أم أن ثمة ما يحدث هناك فعلاً، على ذلك القدر من الأهمية؟ هل حدث انفجار ضخم في الجنوب أم أن المبنى انهار من تلقاء نفسه؟ هل يمكن العثور على إجابات، في "جولة إعلامية"، أو في خطاب مهيمن؟
الجولات الإعلامية "الحربية"، تحدث تحت ذريعة مفادها أن الإعلام ليس مجالاً عاماً، أي على نقيض من تعريف الإعلام أو وظيفته
ربما يكون دور الحزب في الإعلام أضخم مما هو في الواقع. وقد يسأل المتابع هنا، كيف يكون تحديد الأحجام في الواقع، وكيف يكون تحديدها في الإعلام. وقد تتفرع من السؤالين سلسلة أسئلة، أكثر إلحاحاً، عن تعريف الواقع نفسه، وتعريف النظريات الإعلامية المستخدمة. وقد يحتاج كل شيء إلى دراسة جدية تقوم على المسح والرصد، لتحديد درجة "التكافؤ" بين أطراف النزاع، ونسبة الأيديولوجيا في النقل، أو الالتزام بقضايا مثل السيادة والعدالة، بما أن الجيش الإسرائيلي هو جيش احتلال، ولا يمكن نزع هذه الصفة عنه تحت أي ذريعة كانت. لكن الاستجابة الإعلامية للأحداث، في "جولة إعلامية" أو في غيرها، حتى من قنوات معارضة للجهة السياسية التي يمثلها الحزب، تُظهِر عندما يرغب الحزب في الظهور والإظهار، وتُخفي عندما يرغب في الإخفاء والاختفاء. لا يزال الحزب ناجحاً حتى الآن في إدارة معاركه الإعلامية تلك.
المفارقة أن تغطية المؤسسات الإعلامية القريبة من الحزب تميل إلى تصنيف المواجهات كنزاع، إن كان ذلك يتيح استعارة "القوة" كمادة للاستهلاك في النقاش الإعلامي. لكن استفادة الحزب الإعلامية، تكون غالباً من الجهات التي لا تحبه. ما زالت هذه الصورة الإعلامية تستثمر مما تقدم للعالم كإنجازات، في ثلاث محطات رئيسية: الأولى، التصور عن القدرات العسكرية الأسطورية، والناشئ من تخبط جيش الاحتلال في حرب تموز 2006، بدلاً من السؤال عن غياب سؤال الحرية الذي كان مطروحاً بقوة بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان في 2005. الثاني، في 2008، عندما تحولت أحداث السابع من مايو/أيار من قتال أهلي في شوارع بيروت، إلى تصور عن احتمالات قوة الحزب في الداخل اللبناني، وجهوزيته لاستخدامها. وأخيراً، بعد ذهاب الحزب إلى سورية، استجاب الإعلام المحلي اللبناني، حتى المعادي للحزب وسياسة الحزب، للشق الأهم بالنسبة للحزب: فائض القوة. حتى أن هناك من يسمي مشاركة الحزب هناك بالمقاومة، ويستخدم المصطلح نفسه الذي يستخدم لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، ولا يشعر بأي حاجة للنظر في المرآة بعد استخدامه للمصطلح في غير مكانه. بشكل عام أيضاً، ليس مهماً، بالنسبة لحزب الله، اتهامه بالقتال إلى جانب ديكتاتور. غالب الظن أنه يعرف جيداً إلى جانب من يقاتل. وبواسطة آلته الإعلامية الضخمة التي تخاطب جمهوره بسلاسة يعجز خصومها عن فهم ميكانيزماتها، يستطيع تبرير الكثير مما يعتقد الكثيرون أنه لا يمكن تبريره. لكن ما يحتاج إليه دائماً من إعلام الخصوم، هو الاعتراف بقوته، وقدرته دائماً على إدارة "المعركة"، ولا سيما أنه دائماً في حالة حرب. هذه الوظيفة البسيطة للجولات الإعلامية تؤدي وظيفتها، رغم أن الجميع يعرف النتائج مسبقاً.
يمكن للإعلام أن يسأل نفسه أسئلة عن الحقيقة، ليس آخرها عن معنى للذهاب إلى جولة إعلامية في منشأة أو زنزانة
الجولات الإعلامية "الحربية"، تحدث تحت ذريعة مفادها أن الإعلام ليس مجالاً عاماً، أي على نقيض من تعريف الإعلام أو وظيفته. والحزب يحصل على خدمات إعلامية من خصومه دائماً في هذا الإطار. في عرضه للحرب التي لم تقع، يسأل بودريار، هل هي حرب أم هو ترويج للحرب؟ من دون الغرق في حديث عقيم عن "الشروط المهنية"، ومن دون التغافل عن حقيقة وجود احتلال إسرائيلي يستدعي دائماً الانحياز إلى أي مقاومة شعبية ضدّه، يمكن للإعلام أن يسأل نفسه أيضاً أسئلة عن الحقيقة، ليس آخرها عن معنى للذهاب إلى جولة إعلامية في منشأة... أو زنزانة.