لم تكُن المغنّية والراقصة الأميركيّة الفرنسيّة جوزفين بيكر (1906-1975) مجرّد فنّانةٍ في تاريخ الأغنية الفرنسيّة الحديثة، وإنّما باتت تراثاً عالمياً، وأيقونة غنائية صامدة في وجه ديكتاتوريات القمع خلال القرن العشرين. لم تكتف بيكر بنقل أو محاكاة النّمط الغنائي الأوبرالي السائد آنذاك، بل قادها حدسها إلى تجديد الأغنية بشكلٍ تلقائيّ ومُتناغمٍ، مع تحوّلات شتّى طاولت المجتمع الغربي، فقد جعلت الصوت معبراً للتجريب الفنّي، حيث لم يعُد العنصر الوحيد في صناعة العملية الفنّية؛ لأنّها ركّزت على الجسد، بدلالاته وحمولاته، في إنتاج كرنفالٍ بصريّ، يمزج الصوت بالموسيقى والحركة بالرقص.
وقد بدا ذلك بالنسبة للنقاد تفرّداً بالنسبة لفتاة وُلدت في قاع المُجتمع الأميركيّ، ونشأت داخل أسرة فقيرةٍ، ولم تدرس الغناء أو تعلّمت العزف داخل صالوناتٍ غنائية، بل تركت الحياة تلهو بها على ترانيم البؤس والتشرّد، حتّى إنّها تزوّجت مرتين وهي لم تتجاوز العشرين من عمرها.
ورغم صوتها المُتوهّج ورقصاتها الساحرة على خشبات مسارح أميركيّة صغيرةٍ، لم تُحقّق شهرة واسعة، بحكم الذوق الجماليّ الضيّق الذي رسمته شخصياتٌ غنائية أميركيّة في ذلك الإبان. إذْ كان من الصعب على صاحبة "لديّ حبّان، بلدي وباريس"، أنْ تنزع القداسة عن مفهوم الأغنية، وتتّجه بها إلى مسارب فنّية أخرى، بعيداً عن سُلطة النموذج الغنائي.
اعتبر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، جوزيفين بيكر، بمثابة "بطلة قومية" خلال مراسم نقل رفاتها ودفنها في مقبرة البانثيون الباريسية
وهذا الأمر جعلها في بدايات حياتها عرضة للسخرية والنقد، قبل أنْ تُقرّر الهرب صوب فرنسا، حيث ستتعرّف على مُنتجٍ غنائيّ مغمورٍ داخل بعض الفرق المسرحية الغنائية، لتكون بدايتها الحقيقية صوب الشهرة واحتراف الفنّ، حتّى أضحت داخل مدينة باريس من أشهر الفنّانات داخل العروض الغنائية الاستعراضية، ذلك أنّها لفتت كبار المُنتجين بسبب جمالها وقدرتها على اختراق الواقع الغنائي الفرنسيّ البرجوازي بالنسبة لفنانةٍ قادمةٍ من أميركا، وتحمل معها تاريخاً من القهر وتراكماتٍ واقعية مريرة وتجربة زواجٍ فاشلة، والكثير من الخيبات والأحلام المُجهضة في طفولتها.
وعلى الرغم من ولادتها وتنشئتها الأولى في أميركا، إلاّ أنّ جوزفين بيكر، بدت منذ أوّل عمل استعراضيّ لها في باريس كأنّها فنّانةٌ فرنسية، بحكم تلك التلقائية التي وسمت علاقاتها بالمُنتجين والفنانين والموسيقيين والمُخرجين، فقد انغمست داخل الأغنية الفرنسيّة، حتّى غدت واحدة من أقطابها وعلامة فارقة لأغانيها الحديثة. سرعان ما توغّلت بيكر في براديغم الأغنية الفرنسيّة، وبدأت تُحاول تكسير مفاهيمها وقوالبها وإنزالها من برجها العاجي والحالم إلى فضاءاتٍ فنّية قريبة من الناس ومَشاغلها اليوميّة.
ورغم جماليّات أغانيها وقُدرتها على أداء أصواتٍ مُختلفةٍ، حسب وضعياتٍ استعراضيةٍ مُتباينةٍ؛ أضحت جوزفين بيكر إحدى الفنّانات المُقاومات في فرنسا، خاصّة في فترة الحرب العالمية الثانية، مُستغلّة شهرتها التي اخترقت العالم لجمع معلوماتٍ عن بلدان أخرى، وكتابتها داخل مقاطع موسيقيّة وإرسالها إلى القوّات الفرنسيّة على الحدود، ما جعلها تُزاوج في سيرتها بين الفنّ والتجسّس، قبل أن تنتهي الحرب وتعود إلى حفلاتها الغنائية.
جعلها ذلك تنال وسام الشرف الفرنسي، والكثير من الميداليات العسكرية الخاصّة بأنصار والمُدافعين عن المقاومة الفرنسيّة. هذا الأمر، انعكس بشكلٍ إيجابيّ على سيرتها الفنّية، إذ أضحت بيكر أكثر الفنّانات المطلوبات داخل الاحتفالات الرسميّة وجمعيات المجتمع المدني بعد شهرتها مع مارتن لوثر كينغ في أميركا ومختلف دول العالم، إذ ستتصدّى لمُختلف أنواع العنف والعنصرية في حقّ الناس، ولا سيما داخل الطبقات الاجتماعية المُضطهدة التي منها أتت وغزت العالم بموهبتها الغنائية المُتجدّدة.
على هذا الأساس، اعتبرها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بمثابة "بطلة قومية" خلال مراسم نقل رفاتها ودفنها في مقبرة البانثيون الباريسية قبل أسبوع، حيث ستكون سادس امرأة تُدفن هناك إلى جانب أكثر من 70 رجلاً.
جوزفين بيكر التي حصلت على الجنسية الفرنسيّة بعد انتهاء الحرب العالمية وتبنت 12 طفلاً بالنسبة لها لم تُكن المقاومة في صفوف الجيش الفرنسي إلاّ واجباً وطنياً واستجابة لدعوة الجنرال شارل ديغول للمُشاركة في المُقاومة، بسبب شهرتها العالمية وقدرتها على التأثير في مسار الدبلوماسيات العَالمية خلال الحرب العالمية الثانية بالنسبة لوجهٍ غنائيّ مألوفٍ وراقصة في حجم جوزفين بيكر.
مكث إيمانويل ماكرون زهاء ساعة وداعٍ أمام قبر جوزفين بيكر في مقبرة العظماء، حيث تمت استعادة سيرتها بين الطفولة والغناء، والمسرح والنضال والحرب. إذ رغم مرور سنواتٍ طويلةٍ على رحيلها ما زالت أعمال بيكر تُثير جدلاً واسعاً داخل المسرح الغنائي الفرنسيّ، في وقتٍ بدأت التفاهة والاستسهال يخترقان هذا الأفق الفنّي، حيث تحوّلت صور بيكر إلى أعمالٍ فوتوغرافيّة أيقونية يتوسّلها مناضلون داخل فرنسا وأميركا تعبيراً عن سياسات المذلة والتوجهّات العنصرية العنيفة التي يفرضها اليمين داخل عددٍ من المدن الفرنسيّة والأميركيّة.
ولأنّ جوزفين بيكر لُقّبت من بداية مشوارها الغنائي بـ "اللؤلؤة السوداء"، فإنّ الجمال الإفريقي الآسر ورقصها الساحر في مقتبل العمر، وهي ترتدي لأوّل مرّةٍ في باريس لباساً قصيراً وترقص بجرأة كوميدية أمام الناس، جعلا صورتها النوستالجية تلك، مُستعادة وتتصدّر منذ أسبوع أكبر الصحف والمجلاّت داخل فرنسا وأميركا.