"جمال العراق الخفي": أسلوبٌ سينمائي حاذق

15 مارس 2023
"جمال العراق الخفي" في مُصوِّره لطيف العاني (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

كساحرٍ يُحرّك يديه في الهواء، ويُتمتم بكلمات غامضة، ليستحضر بلمح البصر كائنات غابت عن الأنظار منذ زمن بعيد. كائنات ما إنْ تطمئنّ لعودتها، حتّى تسارع العمل لإكمال ما توقّفت عن إتمامه يوماً.

هكذا بدا المُصوّر الفوتوغرافي العراقي لطيف العاني (1932 ـ 2021)، في "جمال العراق الخفي" (2022)، وثائقي المُخرِجَين الكردي سهيم عمر خليفة والبلجيكي يورغن بوديت، رجلاً عائداً من غياب. من زمنٍ جَمّدَه، كما كانت عدسات كاميرته تُجمّد لحظات تلتقطها.

في لحظة دخول الكاميرا منزله في بغداد، يُدرك، هو المُصوّر الموهوب والمحترف، أنّ فرصته المنتظرة حانت، وأنّ عليه عدم تفويتها. يَقبَل المضي مع خليفة في رحلة سينمائية مقترحة في العراق، الذي صوّره في عقودٍ، ووثّق تقلّبات كثيرة في تاريخه الحديث. كما يقبل ويفرح بترشيح جائزة "لوسي" الأميركية للتصوير له، لنيل إحدى جوائزها العالمية المرموقة.

المُقلق في الرحلة، توقيتها في زمنٍ، حلّ الخراب على العراق، ولم يعد فيه ذاك الجمال الذي كرّس مهارته لإظهاره للعالم. في سيارته الـ"بويك" القديمة، يبوح لخليفة، بلوعة، عن سبب تركه التصوير منذ نحو 3 عقود: "هسة ماكو جمال. الجمال اختفى. هسة عنصر القباحة موجود".

في الرحلة الطويلة من جنوب العراق إلى شماله، رغم الخراب الذي حلّ في مناطق كثيرة أحبّها، ووثّق تفاصيل حياة الناس فيها، تسرّب من صُوره وكلامه عنها جمالٌ غامض وخفي. السياق السردي يؤشّر إلى منبعه. داخلٌ نقيّ، وعينٌ لا تذهب إلّا إلى الجميل الحلو. يظهر هذا منذ عمله في مؤسّسات نفطية بريطانية في العراق (أبرزها شركة "آي بي سي")، وثّقت في مطبوعاتها تشكّلاً عصرياً حصل في البلد، كلّفت العاني ليُريه للعالم بعينيه اللتين تستكشفان الجمال، وبروحه الميّالة إلى كلّ مُشرق وواعد. مُصوّر موهوب، يميّز بين الجمال الظاهر والشكلي، والآخر الجواني المُحصّن بدراية ومعرفة. فنان لم يقترب من السياسة، رغم قرب كاميرته من رؤساء وسياسيين (عمل في مجلة "العراق الجديد" أيضاً). ما يهمّه من وجودهم المشهد العام الذي يحيط بهم، وأين موقعه فيه.

لم يرتضِ بمقتل العائلة المالكة، في الانقلاب العسكري عام 1958، وما تبعه من انقلابات. لم يرتضِ بفعلة "داعش" بالإيزيديين، والدمار الهائل الذي ألحقوه بالموصل، التي كان يرى فيها جمالاً مدنياً مختلفاً عن بقية مدن العراق، كما يرى في جبال كردستان وشلالاتها منبعاً للسعادة، وبهجة للعين؛ وفي أهوار العراق، مصدراً للبراءة البشرية الأولى. للعاني عينان تميلان إلى المشهد الحياتي، الأكثر مدعاة إلى التفاؤل بمستقبل أحسن. صَبرَ على النوائب، واختبرته التجارب. يأخذ سهيم عمر خليفة معه، في البحث عن المكان الذي التقط فيه صُور عائلته، في نزهة لها في الطبيعة. لم يبقَ من الظاهرين فيها على قيد الحياة إلا طفلة صغيرة كانت معهم حينها.

 

 

خساراته ومرارته يخزنّها فيه. ينشغل عنها بالصور، وباللحظات التي تلتقطها كاميرته، والتي يراد لها أنْ تحكي لمن بعده عن عراق، آمَن بقدرته على تجاوز المحن والخراب مثله. شحنة أمل صغيرة تكفيه، ليستعيد بها حيويته، ورغبته في إكمال ما توقّف عن إكماله زمناً، رَكَن فيه إلى ذاته، لكنّه لم يستسلم، لأنّ عنده من الكنوز المخبّأة ما يدفعه إلى البقاء والبحث عنها. آلافُ أشرطة "نيغاتيف" صوره أُحرِقَت في القصف الأميركي، والقديم منها ظلّ محفوظاً في لندن. يطلب استعادة بعضها، ليجمعها في مشروعٍ يعرض جزءاً منه في معرض استعادي أقيم له في دبي، ويأمل أنْ يكمله في باريس.

الرحلة السينمائية معه تصل إلى نهايتها في أهوار العراق.

فينسيا العراق، كما يسمّيها، زارها ووثّق حياة سكّانها في شبابه. اليوم، يأتي إليها عجوزاً، رفقة مخرج يعرف كيف يستنطقه، ويستنطق صُوَره بأسلوبٍ سينمائي حاذق. يتذكّر المُصوّر الفوتوغرافي، والكاميرا القديمة لا تفارق يديه، زيارته الأولى للمكان الذي لم يتغيّر كثيراً، فما زال كما كان بسيطاً وجميلاً، والبراءة تشعّ من عيون أطفاله الذين التفّوا حوله، بينما راح يلتقط صُوراً لهم. يتعب، ويتمتم همساً: "هذا يكفي"، كأنّه يودّعهم وداعاً أخيراً.

المساهمون