في وثائقيّه الجديد، "الرقص على حافة بركان" (2023)، يهجر اللبناني سيريل عريس فكرة الخصوصية، وحميمية الأسرة، والرصد الذاتي، والمكان المغلق، وغيرها من مفردات فيلمه السابق، المتميّز والمؤثّر، "المرجوحة" (2018)، وينفتح على العام، في رصدٍ اجتماعي وسياسي واقتصادي لحاضر لبناني، يواجه معضلة ضخمة. هذا كلّه بصراحة ومباشرة وقوّة، لا تخلو من صدق وفنيّات، وسخرية أليمة أحياناً.
يُفتتح "الرقص على حافة بركان" بلقطات وكلمات صادمة من "همسات" (1980)، للّبناني الراحل مارون بغدادي. فيه، تعود الشاعرة ناديا تويني إلى بيروت المُدمَّرة، بعد أنْ مزّقتها الحرب، لتشهد سقوط بلد، ومُحاولاته البقاء والنهوض مجدداً. هناك، تتلاقى/تتصادم الأحلام المُحطّمة للشاعرة، والرؤى والأحلام والمشاعر المثالية لبلدها. بكلمات حادة وقاسية وعدوانية، تنعى تويني بلدها، وتتّهمه، مُلقية اللوم على أهله. لكنّها، في الوقت نفسه، تبوح بحبّ جارف وعشق غير محدود له، ولبيروت تحديداً.
بفنيّة وذكاء ملحوظين، مزج عريس بين اللقطات البيروتية القديمة، المأخوذة من "همسات"، والمصحوبة بتعليقات الشاعرة اللبنانية الراحلة، في أكثر من مكان محوري في فيلمه، ومن دون أدنى إقحام. اللقطات والتعليقات المُنتقاة لها أثر بالغ في إيصال حالة نفسية وشعورية، تُحيل إلى راهنٍ بيروتي مُخيف ومُرعب، لا يختلف كثيراً عما كانه قبل 4 عقود. كأنّ التاريخ اللبناني، بشكل ممقوت، لا يتعب من تكرار نفسه. مُقارنة/مُقاربة عريس تُبرزان أنْ لا فرق كبير بين الدمار والخراب والحطام، المادي والنفسي، الناجم عن الفاجعتين، وتؤكّدان أنّنا لسنا فقط بصدد تشابه الأحداث وتقاطعها وتماثلها، بل إعادة حَرفيّة أدّت إلى النتائج نفسها، في البقعة نفسها، وإنْ اختلفت المقدمات والأسباب.
أسباب مارون بغدادي، في ثمانينيات القرن الـ20، منطلقة من الحرب الأهلية اللبنانية أساساً؛ والأسباب الراهنة لسيريل عريس مبعثها انفجار مرفأ بيروت الكارثيّ، في 4 أغسطس/آب 2020. ورغم العوامل والأسباب الكارثية المختلفة، المرصودة في الفيلمين، لم تختلف الأسئلة المطروحة كثيراً، باستثناء طرح عريس (1987) أسئلة مهمّة ومحورية عن دَور السينما، وصناعة الأفلام، وأهمية الفنّ وضرورته في زمن الأزمات، كأداة مقاومة ونهوض في ظلّ واقع مرير، ومجتمعات بائسة كمجتمعاتنا.
تتمحور فكرة "الرقص على حافة بركان" حول محاولات مُضنية لمواجهة عقبات ونكسات كواليس إنتاج الفيلم اللبناني "كوستا برافا" (2022) لمونية عقل، وتصويره وإخراجه، في إحالة مُلاحَظَة إلى عزم شعبٍ وصموده وتصميمه على البقاء والكفاح، وسط فوضى وكوارث، ومستقبل غامض ومظلم.
للحظات، تستمرّ لقطة سوداء، مصحوبة بصراخ وأوجاع ودهشة وبكاء واستفسارات، تنقل هول ما حدث عقب الانفجار. بعدها، تظهر أجمل لقطات الفيلم، فنياً وبصرياً: بنايات مُدمَّرة أو نصف مُهدّمة، وأخرى سقطت عنها جدرانها ونوافذها، فتعرّت وانكشفت على فضاء قاسٍ لا يستر ولا يرحم. تدريجياً، ندخل شقّة دمّرها الانفجار: إنّها شركة إنتاج سينمائي، لم تُنهب، فما من أحد يكترث بسرقة شركة سينمائية، رصيدها ملصقات وعلب نيغاتيف. بعدها، نتعرّف على ميريام ساسين، المنتجة في "شركة أبوط للإنتاج"، ومونية عقل، وجورج سعادة، مدير التصوير، وغيرهم. جميعهم يتفقدون الشقّة المدمّرة، برعب وهلع وبكاء، وضحك وتفكّه، في جوّ يبلغ مداه بسخرية سعادة من إصابة إحدى عينيه بسبب الانفجار، وهذه رأسمال أيّ إنسان، فما بالك بمن يمتهن التصوير السينمائي.
رغم لقطات دمار المرفأ والمدينة، وأصوات التلفزيون والراديو، الشاجبة والمُدينة والمُتّهمة والمُتسائلة والمُتوعّدة لسلطة وسياسيين ومسؤولين، وما تلاها من مظاهرات وشغب وقنابل مُسيلة للدموع، ينتقل "الرقص على حافة بركان"، شيئاً فشيئاً، من العام إلى الخاص، مُركّزاً أكثر على الإنساني والفني والسينمائي. يتضح بجلاء أنّ الفيلم لا يقتصر على رصد كارثة انفجار المرفأ وتبعاتها، إذْ يغوص أكثر في الاجتماعات التحضيرية لـ"كوستا برافا"، الذي يروي حكاية عائلة تفرّ من التلوّث البيئي البيروتي الهائل، وتلجأ إلى منزل هادئ ومنعزل في الجبل، وتدرك بعد وقت أنّ الحكومة تخطط لإقامة مكبّ للنفايات في جوار المنزل نفسه.
يحاول أفراد العائلة التكاتف معاً، والتسلّح بالأمل لاجتياز المصاعب والكوارث المحيطة بهم. بهذا، وبعيداً عن الاجتماعي والإنساني والنفسي، يناقش الفيلم موضوعات مرتبطة أساساً بالفساد الحكومي، والنهب المنظّم للبلد، والإهمال المتعمّد، وغيرها. أمور لا تبتعد عن كارثة المرفأ، والسياق العام لوثائقيّ سيريل عريس.
الرصد الإنساني للألم والغضب والبوح الذاتي والسخرية المريرة حاضرة، دائماً، في مواقع تحضير "كوستا برافا" وتصويره وتوليفه. الممثلة الشابة نادية شربل فَقدت صديقها في الانفجار، فتبكيه بحرقة وغضب. حديث مونية عقل عن أنّ سيناريو فيلمها عبارة عن ديستوبيا لبيروت عام 2030، وأنّها لم تتخيّل أنّ المدينة ستكون أسوأ ممّا توقّعته وتخيّلته، قبل حلول هذا التاريخ. رصدٌ يُمكن استيعابه وتفهّمه في ظلّ محاولة عريس خلق سياق عام عن حالة نفسية وشعورية بلغها الناس بعد الانفجار، تمثّلت ذروتها في رغبتهم الدائمة والملحّة في الرحيل من البلد، ولو مؤقّتاً. لكنّ الرصد لا يتوقف عند الإنساني فقط، إذْ ينتقل إلى أدقّ تفاصيل صناعة فيلم مُستقلّ، قبل الإنتاج وبعده، وكيف أنّها أمور شبه مُستحيلة.
سريعاً، تتفجّر المشاكل والعقبات والصعاب أمام صنّاع الفيلم، بدءاً من الانفجار وتأجيل التصوير، والتحليق المخيف للطيران الإسرائيلي المنذر بتوتّر الأوضاع، ثم تفشّي كورونا، والحجر الصحّي، والإصابات، وضرورة العزل، ونقص التمويل، وصعوبات تدبيره بعد جُهدٍ، والانخفاض الحادّ في قيمة الليرة اللبنانية، وهبوب عاصفة تدمّر موقع التصوير، مروراً بمفاجأة تحدث قبل 13 يوماً من بدء التصوير: الممثل الفلسطيني صالح بكري، بسبب جواز سفره الإسرائيلي وقيود كورونا، يُضطر إلى المغادرة إلى الأردن ثم إسطنبول. وبعد سفر طويل، يُحتجز في مطار بيروت، في حجرة عزل، من دون أسباب واضحة. لا أحد من فريق الفيلم يعرف كيفية التصرّف، وهل رُحِّل أم لا. أخيراً، يدخل الممثل، من دون معرفة الأسباب: يظهر في موقع التصوير، الذي انطلق أخيراً، واستمرّ 37 يوماً، كما كان مُخطّطاً له. لكنّ اليوم الأخير واللقطة الأخيرة تفيدان أنّ التصوير استغرق 45 يوماً.
لا تنتهي الأمور عند هذا الحد. فبعد 8 أشهرٍ على إنجاز التصوير، وفي مرحلة ما بعد الإنتاج، يواجه الفيلم مشاكل أخرى: انقطاع الكهرباء، والظلام الدامس في بيروت، والمحاولات المضنية لإنهاء الميكساج المتعطّل، وتركيب الصوت في ظلّ تقنين الكهرباء، ونقص المازوت، ونفاد شواحن الأجهزة. إنجاز هذه المرحلة احتاج إلى وقتٍ، إذ تظهر مشاهد من ذكرى مرور عامٍ على الانفجار، ونزول اللبنانيين إلى الشوارع هاتفين بمحاسبة الخونة، والتساؤل عن دور القضاء، وتوعّد الساسة بالعقاب. ثم لقطات من "كوستا برافا" تخدم السياق العام لفيلم عريس. أخيراً، يُحالف الحظّ الفيلم وطاقمه بعد اختياره في "مهرجان فينيسيا السينمائي"، في قسم "امتداد آفاق". لقطات أخيرة عن احتفال فريق الفيلم، وهم يتساءلون: أين المفرّ؟ هل لا بديل عن البقاء، رغم صعوبة تغيير كلّ شيء، واستحالة الحلم والمقاومة والأمل؟
"الرقص على حافة بركان"، الحائز تنويها خاصا من لجنة تحكيم مسابقة "الكرة البلورية" في الدورة الـ57 (30 يونيو/حزيران ـ 8 يوليو/تموز 2023) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي"، ليس مجرّد وثائقيّ عن فيلمٍ آخر، بل انعكاس أزماتٍ في لبنان. في الوقت نفسه، فنيّاً وبنائياً، لا يمكن التغاضي عن كونه توثيقاً لفيلمٍ روائي طويل قيد التنفيذ. فكرة ليست جديدة في تاريخ السينما، ولولا ذكاء سيريل عريس وحِرفيّته، وتضفيره لقطات من "همسات" و"كوستا برافا"، واللعب على الوتر العاطفي، وتوظيف المونتاج بدقّة، لما كاد ما صنعه يختلف كثيراً عن أفلامٍ ومقاطع ترصد كواليس صناعة أي فيلم.
من ناحية أخرى، لم ينجُ فيلم عريس من تطويل وتكرار، ليس في مشاهده وحواراته ومدّته الطويلة (87 دقيقة)، بل كتأكيدٍ لحالةٍ ومشاعر وأوضاع وصلت إلى المُشاهد، ولمسها فعلاً. مثلاً، أحد مشاهد التكرار والإطالة، أحاديث مونية عقل مع والدها عن الأوضاع اللبنانية والحياتية، ونصائحه عن المقاومة وإكمال الحياة رغم الصعاب، وأنّ تراكم المآسي يخلق أشياء استثنائية وجميلة.