جديد الأخوين ملص يحمل عنواناً يُثير التباساً جميلاً، تُبدِّد المُشاهدة بعضاً منه، ويعلق بعضٌ آخر في روحٍ وذاتٍ وتفكير. "أحدنا غادر الصورة" (2020) يُكثِّف حكاية موجعة، تمسّ علاقة أخوين أحدهما بالآخر، وتستعيد تاريخاً (وإنْ تكن أعوامه قليلة) من عنفٍ وخرابٍ وتهجير وتمزّقات. زيارة مفاجئة تُعرِّض كياناً فردياً لاهتزازٍ عميق، وتفتح ثقباً ـ غير منغلق أصلاً ـ على ماضٍ وتفاصيل. التباس العنوان يقول، قبل المُشاهدة، بتداخلٍ متنوّعٍ بين أناسٍ وحكايات. الالتباس نفسه يقول، بعد المُشاهدة، بجماليّته، وإنْ تتوضّح أمورٌ، وتُكشف خفايا.
التوضيح والكشف مُكثّفان سينمائياً في فيلمٍ قصير (16 دقيقة)، كالحكاية والعلاقات والزمن والراهن. تكثيفٌ يؤكّد جماليّة الفيلم القصير في مقاربته شجوناً وانفعالاتٍ وحالات، وتمكّنه البصري والفني والجمالي من سرد حكاية، ومتابعة مسار أفرادٍ ومصائرهم.
في جديد الأخوين أحمد ومحمد ملص، اللذين يمثّلان فيه إلى جانب كلير كوريس، المكان واحد: شقّة صغيرة الحجم (أقلّه بحسب المكشوف منها)، "تتجوّل" الكاميرا (سعد حقّي) فيها بين غرفة ومطبخ. هناك نافذة تُطلّ على شارع ومناخٍ. هناك بابٌ خارجيّ يُفتح مرّات قليلة. هناك 3 أفراد، يتوزّعون أدواراً تعكس شيئاً من وقائع حالةٍ مستمرّة في طرح أسئلتها. الشابان شقيقان (الأخوان ملص). أحدهما مُقيم في الشقّة الفرنسية هذه منذ سنين، رفقة صديقته الفرنسية (كوريس). الشقيق الثاني يصل فجأة. يستقبله شقيقه. كلامٌ عاديّ، ومسائل بسيطة تحدث يومياً، مع إشارةٍ درامية (نصّ الأخوين ملص) إلى شعور الصديقة الفرنسية بأنّ شيئاً ما غير سليم يحدث بين الشقيقين، والقادم حديثاً غير عارفٍ باللغة الفرنسية، وهي غير عارفة اللغة العربية. إشارة توحي بعواقب وخيمة لاحقة، رغم اكتفائها بملمحٍ، يتحوّل بعد وقتٍ إلى صدامٍ، ينبثق من تساؤلاتٍ عادية تسبق الصدام، كأنْ يسأل المهاجِرُ شقيقَه القادم حديثاً: "لماذا تركت البلد؟"، فيُجيب الشقيق بتردّد، مُلتبس بدوره: "كلّ الناس تَرَكِت البلد".
الحاصل لاحقاً معقودٌ على المُشاهدة، فكشفه هنا يُلغي شيئاً من جماليّة الاشتغال السينمائي الهادئ، المؤدّي إلى لحظة الصدام، والمستمرّ في واقع الصدام، وبعضه عراكٌ بالأيديّ.
في العنوان، تحمل مفردة "الصورة" تعابير عدّة، بدءاً من معناها المباشر (فوتوغرافية، متحرّكة، مُصوّرة). بعض المعاني مرتبطٌ بحالةٍ عامة، إذْ يُراد من المفردة أنْ تعكس واقعاً مفروضاً من نظامٍ متسلّط على شعبٍ واجتماع وتاريخٍ وراهنٍ، أو من سلوك شعبٍ يُريد كرامة وعدالة اجتماعية. الصورة مادية مباشرة، لكنّها تحتمل الأعمق والأهمّ من الماديّ والمباشر. مع الأخوين ملص، تنفتح على تداخلٍ كبيرٍ بين المعاني والتعابير، فتُصبح المُشاهدة مدخلاً إلى قولٍ يريده الأخوان ملص، وبوحاً لهما إزاء نزاعٍ تشهده بلدان أوروبية عدّة، منذ فترة، إزاء مسألة الهجرة السورية: مهاجرون موالون للنظام الأسديّ، وهجرتهم الأوروبية مُثيرة لقلاقل ومخاوف واضطرابات، ولمحاكمات.
يبتعد "أحدنا غادر الصورة" عن السؤال المباشر لثنائية الموالاة والمعارضة، ولسؤال الهجرة وحضور موالين للنظام الأسديّ (وعاملين له) فيها. الثنائية جزءٌ من معنى الهجرة، وكيفية تعامل الغرب معها ومع المهاجرين، وبعضهم "جلاّد" في بلده، ومتّهم بممارسة عنفٍ وحشيّ، وهجرته تطرح سؤال السبب والهدف معاً. الأخوان ملص مكتفيان بسرد حكاية شقيقين، يصل أحدهما إلى فرنسا بعد أعوام على هجرة شقيقه، فتنفتح جراحٌ، وتُطرح تساؤلات، وتُكشف حقائق، وتُثار مسائل متعلّقة بتلك الأسئلة وبغيرها، بمواربة فنية، تحافظ على السينمائيّ بجوانبه المختلفة، وتطرح الجوهريّ باشتغال بصري.
السينمائيّ يظهر في تواضع الاشتغال، توليفاً وتصويراً وكادرات. لا فذلكات ولا مبالغات، بل تبسيطٌ بصريّ يُراد له أنْ يُشارك في سرد الحكاية، وفي كشف الانفعالات، وفي طرح التساؤلات. التمثيل يميل قليلاً إلى شيءٍ مسرحيّ، مَلْمحاً أو حركة أو نبرة، لكنّه لن يحول دون إظهار الأهمّ: عمق الجرح والتمزّق والانشقاق بين شخصين، يبتعد أحدهما عن الآخر بسبب تسجيل بصريّ. السؤال المُضمر كامنٌ في هدف زيارة الشقيق بعد سنين على مغادرة شقيقه: لماذا ترك البلد (بعد أعوام على بداية حراكٍ سلميّ، وعلى إشعال حرب) أصلاً؟
في جديدهما هذا، يروي الأخوان أحمد ومحمد ملص، بلغة سينمائية مبسّطة ومُحبَّبة، قصّة يعيشها أناسٌ كثيرون، ويعانون تفاصيلها ومراراتها وأهوالها.