تكريم مهدي فليفل بـ"الإسماعيلية 25": الرصد بالصورة

01 ابريل 2024
مهدي فليفل في "مهرجان برلين 2016": التزامٌ عميقٌ بفلسطين وناسها (كْلِمانس بيلان/Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- في الدورة الـ25 لمهرجان الإسماعيلية الدولي، تم تكريم المخرج الفلسطيني الدنماركي مهدي فليفل، مع التركيز على أفلامه التي تعالج القضية الفلسطينية والمنفى، مما يبرز اهتمام المهرجان بالسينما الوثائقية والقصيرة.
- المهرجان أصدر كتاب "مهدي فليفل... سينما المنفى" وعرض ثلاثة من أفلامه، ما يعكس تقديره لإسهامات فليفل في السينما وتضامنه مع القضية الفلسطينية.
- تكريم فليفل يُعتبر مستحقًا لجرأته في تصوير الواقع القاسي للفلسطينيين وتميزه في استخدام تقنيات السينما لخدمة السرد القصصي، مما يُسهم في إثراء السينما الوثائقية والقصيرة.

 

في الدورة الـ25 (28 فبراير/شباط ـ 5 مارس/آذار 2024) لـ"مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة"، المهداة لفلسطين والمقاومة في قطاع غزّة، حَضَرَت السينما الفلسطينية في أكثر من قسمٍ. كان مُقرّراً تكريم المخرج الفلسطيني الدنماركيّ الشاب مهدي فليفل في ختام الدورة، لكنّ ظروفاً خاصة به حالت دون حضوره، فاكتفى بإرسال كلمة مُسجّلة، بُثَّت في حفلة الختام. بهذه المُناسبة، أصدَرَ المهرجان "مهدي فليفل... سينما المنفى" (130 صفحة)، للناقد أسامة عبد الفتاح، وعُرِض فيلمان قصيران له: "عودة رجل" (2016) و"رجل يغرق" (2017)، ووثائقي طويل بعنوان "عالم ليس لنا" (2012).

 

أسئلة التكريم وهواجسه

كعادة التكريمات في مصر والعالم، تُثِيرُ الأسماء المُكرَّمة جدلاً ونقاشاً، أو اختلافاً وتنديداً أحياناً. ربما يختلف البعض حول معنى التكريم، أو ماهيته وحيثياته. لكنّ المُهم عرض بعض أو كلّ أعمال الشخصية المُكرّمة، أو استعادتها وترميمها، وطبعاً استضافة الشخصية المُكرَّمة، وتنظيم لقاء أو ورشة معها، وإصدار مطبوعة تليق بها، إن أمكن. بذلك، يكون التكريم لائقاً. وربما يعتور هذا نقصاً أو تقصيراً أو أخطاءً أو سوء تنفيذ، لسببٍ أو لآخر، من دون قصد أو إرادة. لكنّ هذا يحدث عادة، هنا وهناك، بصرف النظر عن اسم المهرجان وحجمه.

أسئلة عدّة تُطرح أيضاً: هل الشخصية المُكرَّمة تستحق التكريم أم لا؟ هل هناك ما يستدعي التكريم الآن؟ هل السياق والمهرجان مُناسبان؟ أسئلةٌ متفرّقة تتناول اختيار "مهرجان الإسماعيلية" تكريم مهدي فليفل (1979)، من دون انتباه البعض إلى أنّ هذا التكريم حاصلٌ في سياق التضامن مع فلسطين، ومع ما يحدث في غزّة، أولاً؛ وأنّ المخرج، بما قدّمه من أفلام ومشاريع في أكثر من عقد، يستحق الاحتفاء به، وعرض أفلامٍ له، والتذكير به وبأعماله. كما أنّ التكريم خاصٌّ بمخرج مخلص للسينما الوثائقية التي يتخصّص بها المهرجان أصلاً، وفليفل أحد الأوفياء لها، إن جاز التعبير، إذ عُرِض له أكثر من فيلمٍ، وفازت أفلامٌ له بجوائز، كجائزة لجنة التحكيم عن "عالم ليس لنا" و"عودة رجل"، ونال "رجل يغرق" تنويهاً خاصاً.

بعيداً عن الاختيارات الفنية والإدارية والمهرجانية، المُتعلّقة بالتكريمات، والخاضعة أحياناً كثيرة لاعتبارات غير خافيةٍ، في مختلف المهرجانات المحليّة والدوليّة، يُطرح سؤال إضافي، سينمائيٌّ هذه المرة: هل اكتملت تجربة مهدي فليفل، بحيث يُمكن الإمساك بها، وتناولها بالرصد والتحليل والنقد، في المستويات كلّها؟ لا يُمكن القطع بهذا طبعاً، خاصة أنّ المخرج لا يزال يُبدع، ويعمل حالياً على فيلم جديد له، يُفترض به أن يُطلقه قريباً. هذا يعني أنّ التجربة السينمائية غير مُكتمِلة بعد، ولا تزال تُنجز أعمالاً، ما يدفع إلى سؤال آخر: هل يُوجد في هذه التجربة ما يستحقّ التوقّف عنده؟

 

 

في حالة مهدي فليفل، يُمكن الجزم بهذا، بغض النظر عن المهرجانات المُشارك فيها، والجوائز الحاصل عليها، والترشيحات العالمية، لجوائز "أوسكار" الهوليوودية و"بافتا" البريطانية مثلاً. إذ يضعنا الاستعراض السريع لأفلامه أمام مُخرج شديد الإخلاص للسينما الوثائقية والقصيرة، منذ أعوامٍ طويلة جداً. هذا، بحدّ ذاته، من الأمور النادرة جداً في العالم العربي، أو لم تعد موجودة، مع اختفاء ورحيل أجيال قديمة، وشيوخ السينما الوثائقية. عادةً، ينتقل المخرج والمخرجة، بعد إنجاز الفيلم الأول أو الثاني، إلى الروائي الطويل، ويندر أن يعودا إلى الوثائقي أو القصير، لأسبابٍ مختلفة، أغلبها غير فنّي أو جمالي أو فكري.

أيضاً، يندر جداً أنّ مخرجاً عربياً، خاصة وهو لا يزال في مرحلة الشباب أو البدايات أو صنع الاسم، ينشغل بالعمل على مشروع طويل يتجاوز العقد، ويُكرِّسه لرصد موضوع بعينه، أي القضية الفلسطينية والشتات والمنفى، والانشغال بمكان معيّن، أي مخيم "عين الحلوة" (جنوبي لبنان)، والافتتان بشخصيات بحدّ ذاتها، كـ"بطله" رضا الصالح، ومحاولة رصد التغييرات، النفسية والاجتماعية والاقتصادية والحياتية، لبشرٍ وأماكن وخلفيات وحالات، بطموح مخرج صاحب مشروع، له هدف ورؤية وانحياز.

المُثير للانتباه أنّ انحياز فليفل إلى بلده وأهله وهويته، وقبل هذا إلى التهجير والتشرّد والمنفى، إلى آخر المفردات الوثيقة المُترتّبة على "النكبة" (1948)، والمُلازمة للقضية الفلسطينية عامةً، كان (الانحياز) من دون أدنى مُبالغة منه، أو مُباشرة أو تورّطٍ فَجّ في استغلال القضية وأهلها. هذا مخرج له رؤية وهدف وطموح صادق، ويستحقّ وقفةً نقدية جادّة ومُتأمّلة بعواله وهواجسه ومفرداته البصرية، وبشخصياته التي قدّمها في أفلامه، وصارت صديقة لنا، بحكم تكرار مُشاهدتنا إياها، وانغماسنا في عوالمها الشخصية، في أعوامٍ مديدة.

 

جرأة اشتغال نادرة

من اللافت للانتباه في أفلام مهدي فليفل أنّ هناك جرأة ملحوظة، في أكثر من مستوى، يندر وجودها في السينما العربية. مثلاً: ترك اللعنات والسباب وغيرها من دون حذف أو تجميل؛ السخرية من شخصيات ورموز، كياسر عرفات، أو من محطّات تاريخية مُهمّة، كاتفاقية أوسلو (تمّ التوقيع عليها في 13 سبتمبر/أيلول 1993)، وإعلانه بشكل صريح موقفاً مُعارضاً، من دون تقديس أو تهويل، أو إهالة التراب على شخصيات وقضايا. ينسحب هذا أيضاً على أبطال ـ شخصيات الأفلام. إذ، وبعيداً عن تقديم عوالمها القاسية والظالمة ومسدودة الأفق، لا يستنكف عن تعرية نقاط ضعفها: فبعضها مطلوبٌ للعدالة، أو سارقون، أو تُستَغلّ جنسياً، أو تبيع نفسها طواعية، أو تتعاطى المُخدّرات وتحقن أجسادها علناً أمام الكاميرا. في هذا، لا يُجَمِّلُ فليفل صُوَر أبطاله وواقعهم، وفي الوقت نفسه لا يُصدر أحكاماً قيمية أو أخلاقية (أو غيرها) عليهم، إذ يكتفي بالرصد والتأمّل، ويُقدّم صورة صادقة للواقع، مهما كانت بشاعته.

اكتشاف مهدي فليفل هذه الشخصيات، الفريدة في السينما الوثائقية العربية، يبعث على الحيرة، إذ لا يُعرف تحديداً هل بسببها اكتشف المكان، وأمعن في اكتشافه وتصويره مراراً؟ أم أنّ هوسه بالمكان باعثٌ على اكتشافه هذه الشخصيات، وعلى تتبعه لها ولعوالمها؟ يصعب الفصل، أو فضّ الاشتباك بين الشخصيات وعوالمها، والمُخيم وناسه، واحتضان فليفل هذا كلّه. الاحتضان يكاد يكون إسقاطاً نفسياً وقدرياً للحالة الذاتية للمخرج، إذ مهما هربت الشخصيات ـ ابنة مخيم "عين الحلوة"، الأثير لديه، فهذا موطنه وأهله وعائلته، والمحوري في أغلب أفلامه ـ إلى منافٍ أخرى، كاليونان، تعود دائماً إلى هذا المخيم.

 

 

صحيحٌ أنّه شتّان ما بين الخروج والعودة الطوعيين، والهروب والترحيل القسريّين. إلاّ أن هذه كلّها مُفردات يصعب تجاهلها في أفلام مهدي فليفل، فعلياً على المستوى الواقعي للشخصيات، ورمزياً عبر مُفردات مُكرّرة، كتربية الحمام، وحبسه وإطلاقه. ما يُحيل بشدّة إلى المخرج وعوالمه الخاصة والعامة. حتى وإن أفلت مهدي فليفل أو نجح، لأسبابٍ لا دخل له فيها، في الهرب من المخيم، ومصائر من فيه، ومن الضياع والتشرّد والهجرة غير الشرعية، وغيرها من المآسي، فمصيره، في النهاية ـ رغم جواز السفر الأوروبي، والدراسات الجامعية، والجوائز الدولية، والشهرة السينمائية ـ كمصير أو قدر حتمي لهذه الشخصيات التي تبدو كأنّها تعيش في منفى، معنوياً وجغرافياً.

من الملاحظات اللافتة للانتباه أيضاً في أفلامه، شريط الصوت. فهو يهتمّ كثيراً بوضع مقاطع موسيقية مُميّزة في أماكن حيوية ومُهمّة تخدم سياقها (الأفلام). مع التنبّه إلى أنّ الحرص على توظيف المُوسيقى هذا لا يُقابله، في الوقت نفسه، حِرصاً وتدقيقاً وتنميقاً وتجميلاً كثيراً للصورة واللقطة والاشتغال البصري، عامة. جماليات الصوت تفوق، أحياناً كثيرة، جماليات الصورة، التي لا يُوليها فليفل اهتماماً كثيراً، لتخرج على النحو المُعتاد في أفلامٍ كثيرة. في هذا شُبهة تعمّد بالتأكيد، يتجلّى (التعمّد) في عدم الاكتراث مثلاً بزوايا الإضاءة والتصوير، وبدرجة النقاء والوضوح. يؤكّد هذا المونتاج، الذي يكون أحياناً شديد الحدّة في انتقالاته، مُبتعداً عن السلاسة والنعومة، بشكل مقصود. أمور ربما تنجم أيضاً عن هوس المخرج بتصوير كلّ شيء، بغية الإمساك بصدق اللحظة وعفويتها، والرغبة، حتّى بعد انتهاء الفيلم، في أنّ يظلّ مُحافظاً على هاتين العفوية والبراءة.

 

لا اهتمام بالجماليات

ربما ينزعج البعض من صورة كهذه، بينما يراها البعض الآخر من بين السمات الجمالية والبصرية المُميّزة لأفلامه. المُهمّ هنا، أنّ المخرج مُتمكّنٌ من أدواته، ومُتمرّس فعلياً باستخدامها. لكنّه، ببساطة، غير مُكترث بجماليات وفنيات، بقدر اهتمامه بأشخاص ومكان وموضوع، أساساً. يتأكد هذا في "وقَّعتُ على العريضة" (2018)، الذي مدّته 10 دقائق فقط: مُجرّد تسجيل صوتيّ لحوار بين المُخرج نفسه وأحد الأصدقاء، بينما تتجوّل الكاميرا هنا وهناك، راصدة تبدّل الضوء، وحجرة المكتب، والتطلّع من النافذة. الاشتغال هنا بصري وصوتي أساساً، مع توظيفٍ أثير ومُكرّر للقطاتٍ أرشيفية قديمة، بالأسود والأبيض، ولأخرى بالألوان من المخيم، لخلق التأثير الدرامي المطلوب. توظيف الصوت هذا لجأ إليه المخرج غير مرة، ما يدلّ على أنّه إذا رغب في الاهتمام بإمكانيات وفنيات وجماليات الوسيط السينمائي واستغلالها، فهو قادر على هذا، وبحرفية مُشوّقة.

البُرهان على هذا يكمن في فيلمه القصير جدا، "عشرون سلاماً للسلام" (5 دقائق)، أحد أجزاء فيلمٍ طويل مُكوّن من 9 أفلام قصيرة، بعنوان "زمن مُعلّق" لمُخرجين مُختلفين. فيه، يتجلّى ذكاء مهدي فليفل ودهاؤه عبر استغلاله الاحترافي لتقنية المُونتاج من ناحية أولى، واستعراضه لعينه السينمائية الخبيرة والمُتمرّسة، من ناحية أخرى، إذ أبرز، عبر توظيفه مونتاج لقطةٍ واحدة مُكرّرة 20 مرّة، كيف امتدت يد ياسر عرفات أولاً، قبل ثوان قليلة للغاية، لمُصافحة يد إسحاق رابين، في حفلة توقيعهما على اتفاقية أوسلو.

المساهمون