"تكريم بالاغتيال" لإيليا سليمان: هجمة مرتدة لصورة الفلسطيني

21 أكتوبر 2023
إيليا سليمان: السخرية السوداء، التي تُقابل دائماً بصرامة تقاسيم وجهه (الأناضول)
+ الخط -

صُورٌ كثيرة تتزاحم في ذهني كلّما هممت بالكتابة عن علاقتي بالسينما الفلسطينية. كوني من جيل الثمانينيات، عشت في طفولتي مشاهد مؤثّرة من مسار نضال الشعب الفلسطيني من أجل حقوقه المشروعة: خطابات ياسر عرفات وعباراته المُحَمِّسة، الانتفاضة الأولى وأيقونة وقوف أطفال الحجارة في مواجهة الدبابات، منعطف حرب الخليج والمصعد العاطفي الصادم الذي رافقها، اختفاء سراب السلام العادل عقب اتفاقات أوسلو، ثم وحشية الجيش الإسرائيلي كخلفية ثابتة وراء كلّ ذلك.

محطات غذّت ذاكرتي بصُور دامغة، خاصة أنّ الفترة تزامنت مع تنامي الوعي الشبابي بالقضية الفلسطينية (من زاوية إيديولوجية)، بتوازٍ مع مَدّ الحركات الإسلامية في المغرب، ما جعل أدبيات القضية وصُورها تجتاح فضاء قراءاتي الباكرة، إلى جانب قصص "روايات عالمية للجيب"، بمبادرة من إخوتي الأكبر سنّاً، وانتشار القنوات الفضائية العربية، التي اتّخذت من التغطية الإعلامية لأحداث الشرق الأوسط (بحسناتها ومساوئها) أحد أبرز مرتكزات خطها التحريري، فأضحت تقارير نشرات الأخبار والتغطيات المباشرة لمحطات المقاومة مُرافقاً دائماً لجلساتنا العائلية.

كشفٌ جمالي وحسّي

بعدها، اكتشفتُ أنّ السينما الفلسطينية، بتجاربها الغنية والمنفتحة على الثيمات الإنسانية، تُقدّم قراءات أرحب وأكثر تعقيداً من الإعلام والأدبيات المنتشرة حول القضية، مع أفلام ميشيل خليفي ورشيد مشهراوي وآن ماري جاسر وهاني أبو أسعد وغيرهم. غير أنّ اللقاء الحقيقي، الذي أتاح لي تحقيق نوع من "المصالحة" أو التوفيق بين سينيفيليّتي المتنامية والهمّ الفلسطيني، سيكون قطعاً مع سينما إيليا سليمان.

كان ذلك بمناسبة الكشف الجمالي والحسّي، الذي انطوت عليه مشاهدتي "يد إلهية" (2002)، والتعرّف على شخصية E.S. لأول مرة. تلتها تجربة رؤية باكورته "سجل اختفاء" (1996) وطابعها المتحرّر من سطوة السّرد، والمازج بأصالة بين الوثائقي والتخييلي.

بيد أنّ شيئاً ما ظلّ غامضاً في تصوّري لأفلامه، لم أفهم كنهه حقاً إلّا عندما بحثت عن تجاربه الأولى، فوجدت ضالّتي في فيلمه القصير "تكريم بالاغتيال". أُنتج هذا العمل كجزءٍ من عمل جماعي بعنوان "حرب الخليج... وبعد؟"، شارك فيه خمسة مخرجين عرب رؤيتهم أسباب حرب الخليج الأولى وأحداثها ونتائجها، هم، بالإضافة إلى سليمان، التونسيّان النوري بوزيد ونجية بن مبروك، واللبناني برهان علوية، والمغربي مصطفى الدرقاوي.

فضلاً عن كونه أوّل فيلم يُظهِر شخصية E.S.، أو "إيليا سليمان في دوره الخاص"، بتعبير الجينيريك بالإنكليزية، تنبع أهمية "تكريم بالاغتيال" من أنّه يمثّل ذروة التناغم بين التجربة الأولى للمخرج في صنع فيلم تجريبي صرف بعنوان "مقدّمة لنهايات جدال" (1990)، بالاشتراك مع جيس سلّوم، كردّة فعل حول التمثّلات النمطية والخاطئة حول الفلسطينيين، والعرب عموماً، في الإعلام والسينما الأميركيين خاصة؛ وحاجته الغريزية إلى اقتسام تمزّق الهوية الذي يعيشه، باعتباره ينتمي إلى عرب 48، انطلاقاً من ذاتية مبدعة ومتمرّدة.

النتيجة؟ فيلمٌ هجين بين طابع التجريب، أو Essai، المتأثّر بسينما جان ـ لوك غودار، كما يحضر في "مقدّمة لنهايات جدال"، وجانب الـ Burlesque، المنطوي على تخييل ذاتي حول شخصية E.S.، كما ستحضر بعدها في جُلّ أفلامه الطويلة.

هكذا، انطوى الفيلم على الحلقة الذهبية التي تسمح بالتحوّل من داخل مُنجز سليمان، من "الهجمة المرتدّة" (بتعبيره) على تناول صور فلسطين والفلسطينيين في السينما والإعلام بشكل تنميطي وزائف، أو إيديولوجي وتفخيمي (ينتهي بعدم قول أي شيء غير تمثّلات مزوّرة، أو شعارات جوفاء)، إلى صمتٍ مُدوٍّ، يحمل داخله حمولة انتهاكية، تُعبّر عن المزاج الفلسطيني في مواجهة الاحتلال، من خلال وضعيات مفارقة بعبثيّتها وسخريتها المنزاحة، تنجح في التقاط المعاناة في بُعدها الإنساني، وتتمكّن بالتالي من اقتسامها بأثرٍ كوني.

الهدف خروجٌ من "حالة اللامرئية التي تطبع قدر كل المقاومين"، كما عبّر عنها إدوارد سعيد، ومشاكسة الصُور الجامدة المنتشرة حول الفلسطيني، "الذي يقذف بالحجارة مُلثَّماً بكوفية، باعتبارها هوية بصرية مقترنة بالإرهاب والعنف".

ينطلق الفيلم بصورة E.S. مُنهمكاً في مُشاهدة برنامج على التلفاز، القابع خارج الحقل، بينما يفضح تعليق المذيع بالإنكليزية زيف قِيَم الغرب من خلال وصف المشاهد التلفزيونية التي تُظهر طيران التحالف الذي ينسف مواكب الجنود العراقيين، الساعين إلى الفرار عبر الطريق السريعة، المؤدّية إلى البصرة، في تعارض مُطلق مع سردية أفلام الوسترن، التي تزعم أنّ الخيّرين لا يطلقون النار أبداً على المُدبرين، لأنّ ذلك ينطوي على جُبن. يسعى المذيع إلى ربط الاتصال بـ E.S. وأخذ تصريحه باعتباره "مخرجاً فلسطينياً شاباً". يرفع هذا الأخير سمّاعة الهاتف ليردّ، لكنّ الخطّ ينقطع. يُكرّر المحاولة، لكنّه يفشل في كلّ مرّة. مشهدٌ دالٌّ، يحمل استهلالاً لجمالية الصمت الملتصقة بهذه الشخصية الأسطورية، وكيف نُزِع منها الحقّ في التعبير بشكل عبثي (غير مُفَسّر وبديهي في الوقت نفسه)، ويصلها بتيار سينما اللاتواصل (Incommunicabilité)، المنغرس في ما بعد الحداثة، كما دشّنته سينما كبار، أمثال مايكلآنجيلو أنتونيوني وجاك تاتي.

صُور وجماليات

من وسط عزلة المخرج في شقّته الصغيرة في نيويورك، تتوالى المشاهد القصيرة التي تعتصر حالة الانزياح التي يعيشها، حيث يبدو منسحباً وغائباً في عزّ حضوره. مثل لقطة الحليب الذي يفيض عن الإناء، رغم أنّه يراقبه عن كثب، فلا هو يرفعه عن النار في الوقت المناسب، ولا حتى يُصدر أيّ ردة فعل مستاءة من انسكابه. من أجمل لحظات الفيلم، هناك قراءة الرسالة التي وصلته عبر الفاكس من إيلاّ، صديقته الإسرائيلية ذات الأصل العراقي، تقتسم فيها تجربة هويتها الإشكالية كيهودية عربية، وكيف تعيشها بإحساسٍ شيزوفريني، بعد أنْ أُجبرت منذ صغرها على إنكار بُعد هويتها العراقية المرتكز على حضارة بلاد الرافدين، بينما تعرّض أفراد من عائلتها للتنكيل، بسبب الاعتقاد أنّهم فلسطينيون، وكيف أنّ "قلقها من استهداف إسرائيل بصواريخ "سكود" لم يُلغ فجعها على ضحايا قصف العراق بالقنابل".

في اتصال هاتفي، يحكي الصديق النّاصري للمخرج نكتةً، حول الفلسطينيين الذين يعلقون بين الجنة والجحيم، بعد نقاش بين الملائكة، فيُقتَرح وضعهم في مخيّمات، تُدشِّن (النكتة) اتّجاهاً آخر في جماليات إيليا سليمان: السخرية السوداء، التي تُقابل دائماً بصرامة تقاسيم وجهه، إشارةٌ إلى باستر كيتون، ونزوعٌ إلى تفكيك التمثّلات الهوياتية القائمة على المبالغة في العاطفة أو البكائية.

نحن إزاء جمالية تنهل من إرث الكوميديا، التي تتّخذ من الجسد مركزاً للثورة على الأوضاع، انطلاقاً من القبض على الحالة التي يكون فيها الفرد "بضع لحظات قبل اندلاع ثورته"، كما وصف رولان بارث سينما شارلي شابلن.

تنفجر جمالية الفيلم بسَيلٍ من الصُوَر التي فيها مقاطع من الأرشيف (صُور فتيات فلسطينيات تتدرّبن على القتال، هتلر مع أوصاف عنصرية للعرب، إلخ) ومفردات بلغات مختلفة من أدبيات التناول الإعلامي للصراع، يرقنها المخرج على شاشة حاسوبه، قبل أنْ تنطبع على وجهه ويديه.

لقطة مُكبّرة على مفتاح Return ورمزيته حول حق العودة، من هنا؛ وأمثال فلسطينية لا نرى ترجمتها بالإنكليزية إلاّ في جينريك النهاية، من هناك؛ قبل أنْ تثبت الصورة أخيراً على نص بديع حول الدلالة الزائفة التي يضفيها الإعلام على بعض المفاهيم، وكيفية تفكيكها، يظهر تدريجياً فوق ستار النافذة، بينما يرقنه المخرج من زاوية الكادر: "أنْ تُعيد تسمية الإرهاب. أنْ تتذكّر الإرهاب. أنْ تُعيد تسميته باسمه. أنْ تدعوه إرهاباً مرّة أخرى. التسمية اللافاعلة كوسيلة للتّغيير، للحركة. دعونا ننعت الناس، الكثير من الناس، بالإرهابيين. فلنكن جميعنا إرهابيين حتّى نستطيع أنْ نغدو بشراً مرّة أخرى. وإلى أن نصبح إرهابيين من جديد".

ينطلق عدّ عكسي على الشاشة، بينما يجلس E.S. أمام معدات تحاكي البث التلفزي المباشر (إحالة أخرى إلى سينما غودار، وفيلمه "هنا وهناك، 1976، حول القضية الفلسطينية). تحلّ ساعة الصفر، فيظهر العلم الفلسطيني كحدث شامل يملأ كل الشاشات بمختلف الأحجام والألوان، بينما يملأ طنين بطاقة الاختبار Test card شريط الصوت. هذا أحد أجمل مَشاهد السينما الفلسطينية. انبلاج موطنٍ على الشاشة بالموازاة مع ولادة سينمائي.

المساهمون