تدمير مطابع غزة: حبر يسيل ويمتزج بالدماء

06 ديسمبر 2023
في مدينة غزة (عمر القطّاع/ فرانس برس)
+ الخط -

يمثّل قصف الاحتلال الإسرائيلي مطابع الهيئة الخيرية، التي تقع في مبنى مركز رشاد الشوا الثقافي بمدينة غزة، خسارة كبيرة على أكثر من صعيد، منها ما يتعلق بالذاكرة الفلسطينية في القطاع، وذاكرة هذا الأخير التي شكّلتها الكتب والدوريّات والمجلات. كما أن هذه المطابع التي دُمّرت بالكامل تمتلك جانباً معنوياً لمن تربطهم بها علاقات وحكايات خاصة، علاوة على ما تحويه من أرشيف نادر.
يشير الشاعر الفلسطيني خالد جمعة، في حديث إلى "العربي الجديد"، إلى أن "مطابع الهيئة الخيرية، كنّا نطلق عليها تجاوزاً مطابع الشوا، لكونها تقع في الطوابق السفلية لمبنى مركز الشوا الثقافي، وتحديداً في المطابع الخيرية. وفي تسعينيات القرن الماضي، كان المركز يمتلك أحدث المطابع، وكانت الأكبر أيضاً". يضيف: "كنّا، مثلاً، نطبع عندها مجلة "عشتار" الثقافية التي كنتً أشرف عليها برفقة عثمان حسين وفايز سرساوي، وكذلك مجلة "رؤيا" في بعض أعدادها، والكتاب السنوي للهيئة العامة للاستعلامات، إذ كنت أعمل قبل الانقسام الفلسطيني. ومن بين أهم ما كان يطبع فيها، إضافة إلى الكتب، كتاب شهري يمكن وصفه بـ"يوميّات الانتفاضة"، يتضمن إحصائيات توثق الاعتداءات وأعداد الشهداء والجرحى، وغير ذلك من التفاصيل حول انتفاضة الأقصى التي اندلعت عام 2000".
يلفت جمعة إلى أن "مطابع الهيئة الخيرية كانت تطبع كثيراً من الكتب وغيرها، سواء بمقابل مادي أو من دونه. فمطبوعات المساجد مثلاً، كانت تطبعها مجاناً"، موضحاً أن أي أرشيف فيها لم يتم نقله قبل القصف الأخير. يقول جمعة إن ما حدث من قصف لمركز رشاد الشوا الثقافي، وضمنه مطابع الهيئة الخيرية ومكتبة "ديانا تماري صباغ"، كلها خسائر "لا تقدر بثمن، فالمركز بكل ما فيه يرتبط بالذاكرة الجمعية للكثيرين في غزة، خاصة مبدعيها من فنانين بكافة مجالات، وكتاب، وشعراء، وأكاديميين، وباحثين، وفرق فنيّة، وغيرهم، ومن بينهم أنا والكثير من أصدقائي بطبيعة الحال، فلا مثقف في قطاع غزة إلا وله ذكريات مع المركز ومرافقه".
ومن المطابع المعروفة التي تعرضّت للتدمير، مطبعة ومكتبة مقداد، التي يعود تأسيسها إلى ثلاثين عاماً في مخيم الشاطئ للاجئين. في حديث إلى "العربي الجديد"، يقول المقداد جميل مقداد، ابن صاحب ومؤسس المطبعة وأحد المسؤولين عن إدارتها، إن اسمها الرسمي هو "دار المقداد للطباعة"، وإنها تأسست بجهد ذاتي من والديه، وبأقل الإمكانيات، قبل أن تتحول إلى واحدة من أكبر مطابع قطاع غزة، على مراحل عدّة منذ تأسيسها عام 1993، إذ باتت، ما قبل تعرضها للقصف في الحرب المتواصلة على غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تشغل قرابة 500 متر مربع.

وكانت مطبعة مقداد تشتهر بين الطلاب الجامعيين، وفي مرحلة لاحقة بين طلاب الثانوية العامة، فهي الأكثر طباعةً للكتب الدراسية للعديد من الجامعات، والكرّاسات الجامعية لأساتذتها، سواء من زملاء مؤسسها جميل مقداد في جامعة الأزهر، أو الجامعة الإسلامية وجامعة القدس المفتوحة وجامعة الأقصى في غزة. لذا، ارتبط اسم المطبعة "دار المقداد للطباعة" كثيراً في أذهان الآلاف من طلبة جامعات القطاع على مدار السنوات الماضية.
كما أن الدار، وفي السنوات الأخيرة، باتت مصدراً أساسيّاً للكرّاسات المساعدة أو المساندة لأبرز معلمي الثانوية العامة لكافة الفروع، وفي العديد من المواد، خاصة مع تأسيس مكتبة مقداد في وقت لاحق، إذ تحولت إلى مزار لدى هؤلاء الطلاب، حيث سلسلة "المقداد" وقبلها "المؤنس"، واستفاد منها عشرات آلاف الطلاب، لافتاً إلى أن المطبعة، ومن باب التسهيل على الطلاب، ضمت غرفاً صفيّة لتقديم الدروس لمجموعات بعينها، بل باتت منذ عام مركزاً لذلك.
يشير المقداد إلى أنه مع مطلع الهدنة، اكتشفوا قصف المطبعة بقنابل فسفورية دمرت كل ما فيها من ماكينات طباعة، وآلات تجليد وتغليف وتصوير، ومخازن، وأجهزة حاسوب، إضافة إلى أجهزة توليد الكهرباء بالطاقة الشمسية، مقدراً الخسائر الأولية بما يقارب 200 ألف دولار أميركي، مشدداً على أن هذا المشروع العائلي، الذي بدأ بوالديه، عمل ويعمل فيه العشرات، جلهم من أفراد العائلة، وبينهم هو وإخوته وأخواته وعددهم 12 شخصاً.
بدوره، يشير رئيس اتحاد الصناعات الورقية والتغليف الفلسطيني فيكتور حزبون، في حديث إلى "العربي الجديد"، إلى الخسائر الكبيرة لقطاع المطابع على أكثر من صعيد، من بينها الجانب الاقتصادي، لافتاً إلى أن الطباعة كصناعة تضم التغليف الذي يساهم بما معدله 10% من مختلف الصناعات، وطباعة الكتب التي لا بديل لها في غزة إلا المطابع الوطنية، وخاصة طباعة المناهج المدرسية الفلسطينية، والحديث عن طباعة كميات كبيرة من الكتب المدرسية للمدارس الحكومية، والمدارس الخاصة، ومدارس "أونروا"، وكان أشهرها تاريخياً مطبعة "منصور"، التي باتت ثلاث مطابع بعد وفاة الأب، إضافة إلى مطابع البرقوني، مشيراً إلى مديونية مطابع قطاع غزة على الحكومة الفلسطينية برئاسة محمد اشتية، جلّها مقابل طباعة كتب المناهج المدرسية، تقارب 40 مليون شيكل (11 مليون دولار أميركي).
يقول حزبون إن نائب رئيس الاتحاد عبد الهادي منصور قد استشهد، وهو صاحب واحدة من كبرى المطابع في غزة، مشبراً إلى فداحة الأضرار المرصودة، والصعوبة البالغة في حصر كافة الأضرار التي طاولت فقط مطابع أعضاء الاتحاد.

فحتى مع الهدنة، لم يكن الوصول إلى شمال قطاع غزة بالأمر بالسهل، كما أن صعوبة التواصل بين الأعضاء في غزة نفسها، وبين رئاسة الاتحاد في الضفة وغزة، في ظل انقطاع الاتصالات والإنترنت المتواصل، تعقّد الأمور، مع أنهم في الاتحاد أخذوا قراراً بحصر هذه الخسائر إن تمكنوا، لا سيما مع عودة الحرب والقصف الذي يطاول جنوب قطاع غزة.
يوضح حزبون أنهم في الاتحاد نجحوا في تخليص البضائع العالقة لصالح أعضاء الاتحاد من غزة، ونقل الحاويات من الموانئ الإسرائيلية، وتوزيعها على مخازن الأعضاء في الضفة الغربية، مختصراً الأمر بأنه "صعب للغاية ومعقد، خاصة أن الكثير من الأمور لم تتكشف، وأن الحرب لا تزال متواصلة".

المساهمون