بورتريه للصحافي الغزّي... شاهد على الجريمة والخراب

27 يناير 2024
صحافي فلسطيني في مدينة رفح (عبد زقوت/ الأناضول)
+ الخط -

تلقى مهنة الصحافة اهتماماً دولياً خاصاً، سواء من ناحية المواثيق والمعاهدات التي تضمن حقوق الصحافي وتطالب بحمايته خلال النزاعات، أو من ناحية الجوائز التي يتلقاها الصحافي، تقديراً لشجاعته في تغطية أخبار الحروب. لكن كل هذا الاهتمام يذهب هباءً، وتضرب المواثيق بعرض الحائط أمام عدوان لا يفرق بين صحافي وعسكري، كما هو الحال في قطاع غزة، حيث توثيق الجرائم ونقل المعاناة يشابه ضغط الزناد عند الاحتلال الإسرائيلي.

في أعقاب العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، تسلّح الصحافي بكاميرته وارتدى سترته الواقية إن وجدت، مدركاً أن علاقة هذه المدينة مع العالم في هذا الوقت هي علاقة صورية، فالعالم يتابع ما يجري من خلال عدسات كاميرات من هم في غزة. لذلك، ليس من السهل على الصحافي هناك أن يغيب عن عمله، فغيابه يعني غياب صورة الناس وصوتهم عن العالم، وهذا الأمر بدوره جعله يشعر بزيادة المسؤولية وبأهمية دوره في مواجهة آلات الموت الإسرائيلية، عبر تصويب عدسته باتجاه فوهات المدافع والطائرات.

لأجل هذا، رأى أن لا بد من استمراره في أداء واجبه. هذا الواجب لم تفرضه الشرعيات الدولية ومعاهداتها، بل فرضه الحس الإنساني أولاً، أي شعور الإنسان بأخيه الإنسان، ثم فرضه ثانياً، الحس المهني الذي يتميز به الصحافي الفلسطيني كما ثبُت في ساحات المعارك الإعلامية.

يلاحق الموت الجميع في غزة، والصحافي يترصد لهذا الموت. قد يوّثق الحدث، أو يصبح هو الحدث، إذ قتلَ الاحتلال منذ بداية عدوانه إلى الآن أكثر من مائة صحافي وصحافية، كان بعضهم يشير إلى أن هذا الفيديو قد يكون آخر فيديو له بسبب شدة القصف حينها، وذلك في كل مرة يظهر فيها أثناء تغطية خبر ما. هكذا هي الأوضاع، لكن على الرغم من مخاطر العمل الإعلامي، إلا أن هناك شخصيات صحافية برزت وأثبتت أنها أكبر من المجزرة وأعلى من الحصار، شخصيات أضحت نماذج يشار إلى ثباتها والتزامها وقدرتها على العمل وإنتاج الأخبار في ظل ضعف الإمكانات والتجهيزات، في مقابل حصول الاحتلال على خدمات أهم القنوات ووكالات الأنباء الغربية التي سخرّت منصاتها لنشر الرواية الإسرائيلية للأحداث.

خلف التغطية الإخبارية وإعداد التقارير عن قطاع غزة، يقبع مُعدها تحت ضغط نفسي هائل، فهو ليس ناقل الخبر فقط، وإنما هو، أيضاً، الشاهد على المجازر بحق عائلته وزملائه وجيرانه، والشاهد على المجاعة التي تفتك به وبمن حوله، والشاهد على زوال تاريخ مدينة وفناء معالمها المتنوعة، والشاهد على خيبات من انتظر ليعبر ولم يستطع، والشاهد على يأس الكبار وخذلانهم وقلق الصغار من مستقبل مجهول بعد هدم المدارس والمكتبات ومساحات اللعب. والنتيجة بعد كل تلك المشاهدات هي صدمات نفسية مؤجلة، إذ ليس من السهل أن تفارقه صور الأشلاء وتعابير ذويهم، كما أنه سيحتفظ بتفاصيل مؤلمة عاشها لن يتمكن من روايتها لأحد.

لم تكن مهمة العمل الصحافي خلال العدوان المتواصل على غزة تقع، فقط، على عاتق الاختصاصيين في هذه المهنة، إذ تطوع عدد من الشباب والشابات ممن يملكون الهواتف والقدرة على الاتصال بالإنترنت في نقل الأخبار ونشر الفيديوهات وإعداد التقارير المصورة. لا ينتظرون تواصل المحطات والمواقع معهم لتذيعها لديها، بل يبادرون في بثها على صفحاتهم الشخصية على منصات التواصل الاجتماعي. لقد كان لهذا التطوع تبعات جيدة في تأسيس وصناعة محتوى يساهم في الترويج للرواية الفلسطينية بلسان أصحابها وصورهم.

في الفترة الأخيرة، ترجّل بعض الصحافيين عن صهوة كاميراتهم، وقرّروا الخروج من غزة عندما سنحت لهم الفرصة بذلك، وما أقلّ فرص مغادرة غزة في هذا التوقيت. تداول عدد من الأشخاص أسباب خروجهم مثل الحاجة إلى العلاج وغيرها من المبررات، وكأن الفلسطيني في غزة؛ سواء كان يعمل في الصحافة أو غيرها، يحتاج إلى تقديم سبب يدفعه للحضور في مكان آمن يحميه من القتل قصفاً أو الموت جوعاً أو الإذلال اعتقالاً وتشريداً.

لذا، الخروج لا يعني الاستسلام، وليس طلباً للرفاهية كما يدّعي إعلاميو التوك شو، إذ يحق للصحافي أن يترجل في الوقت الذي يريده، أما مسألة البقاء أو الخروج؛ فليست هي ما يشغل فلسطينيي قطاع غزة، بقدر ما تشغلهم مسألة الإنهاء الفوري للعدوان، ودخول المساعدات، أو على الأقل فتح معبر رفح لنقل المصابين لتلقي العلاج.

المساهمون