بعد نهاية التاريخ... الطبقة البريطانية العاملة في صور

24 اغسطس 2024
عمل لسيرينا براون (موقع المعرض)
+ الخط -

في العام نفسه الذي سقط فيه جدار برلين (1989)، كتب المنظر الاقتصادي فرانسيس فوكوياما مقالته الشهيرة "نهاية التاريخ"، متنبّئاً فيها بسيادة النموذج الليبرالي. في هذه المقالة التي تحولت فيما بعد إلى كتاب، زعم فوكوياما أن النظام الليبرالي هو وحده القادر على تحقيق السعادة للبشرية والاستقرار العالمي. اعتبر الرجل أن انتصار النظام الليبرالي يمثل نهاية التطور الاجتماعي والثقافي والأيديولوجي للبشرية، وبداية لعصر جديد من الاستقرار الجيوسياسي. نحن اليوم نعيش بالفعل بعد نهاية التاريخ الذي حدّده فوكوياما، وندرك أن نبوءته هذه لم تتحقّق، فالعالم لا يزال مسكوناً بأسباب الصراع، وتحكمه الانقسامات والحروب.

المعرض الذي يستضيفه حالياً غاليري فوكال بوينت (Focal Point Gallery) في بريطانيا (في مدينة ساوثند أون سي) حتى 14 سبتمبر/أيلول المُقبل، يطرح تصوراً مغايراً لما ذهب إليه فوكوياما. فالتاريخ، كما يرى منظمو المعرض، لا يتوقف أو يُحاصر في أيديولوجية معينة، بل هو مُتجدد ومُتغير طالما استمرت الحياة.

يُنظم المعرض تحت عنوان "بعد نهاية التاريخ: الطبقة العاملة البريطانية بين عامي 1989 و2024". يشير عنوان المعرض الذي يُشرف عليه الكاتب والمصور البريطاني جوني بيتس إلى مقولة فوكوياما بشيء من السخرية، مؤكداً أن التاريخ لم ينته أو يتوقف، لكنه تغير بالطبع كما تغيرت ثقافة الناس واهتماماتهم.

"بعد نهاية التاريخ" هو معرض متجول يجوب مساحات العرض والمتاحف وغيرها من الأماكن الممولة من القطاع العام في المملكة المتحدة، وهذه هي المحطة الثانية له. ترصد الأعمال التي يضمها المعرض التغيرات التي طرأت على ثقافة الطبقة العاملة في المملكة المتحدة خلال هذه الفترة الزمنية التي تقارب أربعة عقود، منذ سقوط جدار برلين وحتى اليوم. هذه التغيرات التي يشير إليها بيان المعرض تتجسد في الوجوه المختلفة للحياة، من الثقافة والملبس إلى أساليب الاحتفال والتفاعل مع الآخرين. تقدم الأعمال تصورات مختلفة وغير نمطية عن حياة الطبقة العاملة، في تحد واضح لهيمنة السرديات التاريخية والنسق الهرمي المتعارف عليه للطبقات الاجتماعية.

لا يتعامل "بعد نهاية التاريخ" مع أفراد هذه الطبقة، كما يقول منسق العرض، جوني بيتس، كشخصيات رمزية، بل ينغمس في حياتهم الشخصية، سعياً إلى الوصول إلى صورة أوضح للعالم، كما يتراءى لهم. يضيف بيتس: "لسنا هنا بصدد رصد لحياة هؤلاء العمال، أو توثيق معاناتهم، كما قد يظن بعضهم، فواقع حياتهم أكثر تعقيداً من ذلك بكثير".

يبتعد العرض عن ممارسات التصوير الوثائقي لحياة العمال في الستينيات والسبعينيات، كما يبتعد أيضاً عن الصورة النمطية للطبقة العاملة البريطانية التي غالباً ما كان يجري تصويرها كمجموعة من الرجال البيض المُرهقين والملطخين بالسُّخام. ربما تُشكل هذه الصور النمطية توقعات الناس حول الشكل الذي قد يبدو عليه معرض للتصوير الفوتوغرافي عن الطبقة العاملة، وهو ما سعى منسق المعرض إلى تحطيمه تماماً. لن ترى هنا عمالاً داخل المصانع واحتجاجات وأشياء من هذا القبيل، إذ تستقبل الزائر ثلاث صور بالحجم الطبيعي للملاكم اليمني البريطاني نسيم حميد، الذي سطع نجمه في عالم الملاكمة في تسعينيات القرن الماضي، وصُنّف واحداً من أهم ملاكمي بريطانيا في وزن الريشة. الصورة كان قد التقطها الفوتوغرافي تريفور سميث، الذي تعامل مع صورة حميد بوصفها رمزاً لأحلام وتطلعات أبناء الطبقة العاملة المُهاجرة في التسعينيات. أغلب الصور المُشاركة هنا لمصورين من أبناء الطبقة العاملة يوثقون فيها حياتهم اليومية.

ستطالعنا مشاهد متنوعة من أحياء المهاجرين للمصور رينيه ماتيتش، وصور أخرى للمجتمع الهندوسي في بريطانيا للمصور كافي بوجارا، إلى جانب أعمال المصور جيه إيه موتردام التي سجل خلالها يومياته أثناء عمله مقدم رعاية صحية. يستكشف المعرض تحديات وجمال حياة الطبقة العاملة المعاصرة في بريطانيا بكل تنوعها وتناقضاتها.

يضم المعرض مجموعة متنوعة من أعمال مصورين بريطانيين بارزين، من أمثال هانا ستاركي (1971)، وريتشارد بيلينغهام (1970)، إلى جانب أسماء أخرى أقل شهرة من جيل الألفية. سنشاهد هنا صوراً لراقصين في النوادي الليلية، ومشاهد لاحتفالات عائلية، أو صوراً للعاملين داخل المتاجر والفنادق الصغيرة.

لا يهتم المعرض، كما يقول منسقه جوني بيتس، بما يتوقع الناس أن تكون عليه الطبقة العاملة، بل بما يحدث بالفعل. لقد حرص منسق العرض، كما يقول، على إظهار التنوع الثقافي لهؤلاء العمال، وأساليبهم المختلفة في التجاوب مع المتغيرات الاجتماعية، والتأكيد أيضاً على التداخلات بين الطبقات العليا والمتوسطة والعاملة. يستكشف معرض "بعد نهاية التاريخ" الحياة من خلال عدسات فناني الطبقة العاملة، الذين لم يوجهوا نظرهم إلى مجتمعاتهم فحسب، بل وجهوا نظرهم أيضاً نحو العالم الأوسع. والنتيجة هي مجموعة متنوعة من الأعمال الفوتوغرافية التي لا تحتفل فقط بحياة الطبقة العاملة المعاصرة وتدافع عن تنوعها وجمالها، بل تتحدى أيضاً الصور النمطية حولها.

دلالات
المساهمون