بعد عام على حرب الإبادة... أين روايتنا؟

08 أكتوبر 2024
في خانيونس، السادس من أكتوبر 2024 (عبد الرحيم الخطيب / الأناضول)
+ الخط -

وسط الانشغال المهني ومتطلّباته، في الدورة الـ81 (28 أغسطس/آب ـ 7 سبتمبر/أيلول 2024) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي"، ورغم صعوبة المتابعة التفصيلية لأخبار حرب الإبادة الوحشية وأهوالها، المستمرّة على قطاع غزّة؛ ومع الحديث عن مجزرة جديدة، وعن مزيدٍ من جثث وتجويع وتطهير عرقي شامل؛ شاهدتُ "عن الرجال والكلاب" للإسرائيلي داني روزنبيرغ، لضرورة مهنية، وبدافع الفضول والاستكشاف.
كان الصراع داخلياً قبل مُشاهدته. ينقسم بين ضرورة التجرّد والتحلّي بالحِرفية والإنصاف قدر الإمكان، والتساؤل المُلحّ عن مدى إمكانية الفصل بين الناقد والإنسان، لأحقّق هذا الانضباط في المشاهدة، وبلوغ أقصى درجات التجرّد والنزاهة والحيادية. هذا لم يكن سهلاً. لكنْ، ما خفّف من وطأته أنّ الفيلم المعروض متهافت.
هناك عجلةٌ بالغة لأنْ يبدأ الفيلم، لمعاينة الموضوع والأفكار والمعالجة، بعد تعمّدي عدم قراءة شيء عنه مسبقاً، واستكشاف أول فيلم روائي طويل إسرائيلي يتناول الحاصل منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، ورصد وجهة النظر الإسرائيلية المطروحة لرواية الأحداث.
فور بدئه، أوضحت اللوحات أنّ التصوير جرى بعد شهر تقريباً مما حصل في ذاك اليوم، في كيبوتز إسرائيلي متاخم لحدود قطاع غزّة. أمر غريب ومُدهش لي، نظراً إلى السماح لفريق العمل (منح تصاريح) بالتصوير في أراضٍ تُعتبر "منطقة عمليات عسكرية مغلقة"، وكانت حينها لا تزال تتعرّض لقصف صواريخ المقاومة. أما الحبكة، فيمكن تصويرها في أماكن "آمنة"، أو أقل خطورة. لكنّها الرغبة في استعراض الدمار والخراب والحرائق التي لحقت بالسكّان هناك. وهذا أحد الدوافع الرئيسية لانجازه: استعراض متواصل لمنازل مهجورة، فيشاهد العالم ما جرى على أيدي هؤلاء "الرجال".
صحيحٌ أنّه بعد مشاهدة الفيلم، الضحل والساذج والمفتعل إلى أقصى درجة، حَدَث ارتياحٌ لضعف الطرح والمعالجة والتناول. تمحورت محاولة روزنبيرغ، المُباشرة والفجّة، حول إبراز مدى إنسانية شابّة إسرائيلية، وهي تخترق الحدود والحواجز الأمنية العسكرية العتيدة، تحت القصف المستمر، لتضحّي بحياتها بحثاً عن كلبتها الضائعة وسط أنقاض كيبوتزات محترقة ومدمّرة. ثم يستضيفها جار مخلص، رفض ترك منزله وأرضه، ويصف لها هول ما حدث، كشاهد عيان. في نصفه الثاني، تظهر فتاة أخرى تضطلع بمسؤولية البحث عن الكلاب والقطط المتروكة والشاردة وسط حطام الكيبوتزات.
هناك "ذكاء" في عدم الإمعان في شجب الآخر وإدانته وتحقيره، أي "الرجال" تحديداً، والفلسطينيين عامة. حاول كتّاب السيناريو (المخرج والممثلة الأولى فيه أوري أفينوام ومنتجه إيتاي تامير) تضمين الموضوع حيادية لازمة، عبر مقاطع فيديو تشاهدها الفتاة على هاتفها عمّا جرى قبل بداية الحرب. ثم لقطات عن انطلاقها، وبداية تدمير غزّة ومبانيها وتسويتها بالأرض.
كلّ ما يتعلق بهذا الفيلم وبأحداثه يُثير أسئلة كثيرة، أبرزها: أين روايتنا نحن إزاء ما حدث ويحدث، منذ اندلاع هذه الحرب القذرة؟
بصرف النظر عن الرغبة الإسرائيلية في إبداء المظلومية، وتضخيم ما حدث، والتهويل من فداحته، وتبيان أثره حتّى على كلاب وقطط، والبشر طبعاً؛ وبصرف النظر عن المستوى الفني للفيلم؛ فإنّ سرعة إنجازه وضخامة تمويله وتذليل العقبات أمام تنفيذه، تثير الدهشة. اللافت للانتباه كيفية الاشتغال على فكرة ساذجة، وتطويرها وأنسنتها وإكسابها مصداقية واقعية، للخروج منها بفيلمٍ يُعرض ويُنافس في قسم "آفاق" في مهرجان فينيسيا، وبعضهم وصفه بالمحايد والإنساني، يستدرّ تعاطفاً وتعاضداً، وتصفيقاً، بينما حقيقة الضحية غائبة.
ما سبق يُثير تساؤلات عدّة عن النشاط السينمائي الإسرائيلي، في مقابل كسل فلسطيني ـ عربي؛ وعن الرغبة الإسرائيلية في العمل وسرعة الإنجاز، والعزوف والانسحاب والزهد الفلسطيني في الوجود والحضور وفقدان الأمل.

هل تواتر الأحداث وتسارع المصائب وتكاثر المذابح شديد الثقل، إلى درجة استحالة التفكير في تحويل أي منها إلى دراما إنسانية صادقة تُقارب الواقع؟ كم من قصص سمعنا بها أو عاينّاها في العام الفائت تفوق قصة الشابة الإسرائيلية الباحثة عن كلبتها قوةً وإنسانيةً ومصداقية؟
في العالم العربي، ولدى الفلسطينيين، هناك مواهب سينمائية أنجزت أفلاماً فنية بالغة الحِرفية والفنية والمصداقية، قادرة على سرد أبلغ القصص والملاحم الإنسانية، وأهوال ما حدث ويحدث، وتحويلها إلى دراما راقية. هناك، في مختلف جوانب الصناعة، من لديه موهبة وخبرة وقدرة على إنجاز الكثير المبهر، وإنْ أنجز هذا على عجل، ولم يكن مكتمل الجوانب: أليس المهمّ الوجود بحدّ ذاته، في هذه الظروف، وإظهار روايتنا في مقابل رواية الآخر وما يُقدّمه؟

سينما ودراما
التحديثات الحية

بعد مرور عام على الأحداث، لم يُنجز إلاّ القليل جداً، وهذا أقلّ من المطلوب والضروري. فما الأسباب؟
من جهة أخرى، هناك كَمّ من صناديق التمويل العربية، والجهات المانحة والداعمة، في مختلف مراحل إنجاز الأفلام. إذاً، لا عقبة في التمويل، تقريباً. لكنْ، لم يُسمَع بجهةٍ استنكفت أو تمنّعت أو اعترضت على تمويل أفلامٍ تروي فداحة الحاصل في غزّة. إضافة إلى صناديق وجهات أخرى في العالم لن ترفض تمويل وجهة نظرنا، وإنْ ببعض شروطٍ وضوابط. أصلاً، لسنا بحاجة إليها. إذاً، أين تكمن المشكلة الحقيقية في هذا التقاعس؟ إنْ لم تكن في غياب الكفاءات والتمويل، فأين تكمن تحديداً؟
إنجاز مشروع وثائقيات الفلسطيني رشيد مشهراوي، مع مخرجين آخرين من غزّة، في "من المسافة صفر"، المعروض في أكثر من مهرجان، محلي ودولي؛ إلى الروائي القصير "ما بعد" للفلسطينية مها الحاج، الفائز بجائزتي أفضل فيلم قصير للمؤلّف ولجنة تحكيم الشباب المستقلّة، في الدورة الـ77 (7 ـ 17 أغسطس/آب 2024) لـ"مهرجان لوكارنو السينمائي الدولي"، من بين القليل المُنجز، إضافة إلى وثائقيات وريبورتاجات أنتجتها قنوات عدّة، وعرضت هنا وهناك، من دون انتشار. هذا يُعيدنا إلى التساؤل مُجدّداً: أهناك نقص إرادة وتصميم وعزم، أم عزوف وعدم اهتمام، أم يأس، أم عراقيل سياسية؟ أم أنّ الأحداث أفظع من أنْ تُروى وتُصبح دراما؟ أو ماذا؟ لا إجابات، فقط دهشة وحزن وحسرة بال.

المساهمون